د. جاسم العلوي
لَئِن كانَ قلقُ المعرفة هو قلق التساؤل، فإنه عند فيلسوف العلم الحديث كارل بوبر لهو قلق مضاعف؛ ذلك لأنَّه قلق العالم والفيلسوف في الآن ذاته. ولرفع هذا القلق المعرفي، استخدم كارل بوبر المنهجية العقلية النقدية في مواجهة المسائل المتعلقة بفلسفة العلوم. لقد برهن كارل بوبر على أنَّ هذه المنهجية ذات التوجه النقدي لهي منهجية متعالية على المذاهب والتيارات الفلسفية، وعلى المقولات التي شكلت -على مدى سنوات- عقائد دوغمائية لا يُمكن التفكير خارج سياقاتها.
وبهذه المنهجية المتعالية التي سوف تكشف عنها هذه الورقة، يتعالى هو نفسه عن التصنيف ضمن مذهب أو تيار فلسفي معين. هو رجل مارس نشاطه الفلسفي بشكل حر خارج نطاق السياقات الدغمائية والأنساق الفكرية التقليدية، ومن هنا جاء نتاجه الفكري ثورة في حقل المعرفة البشرية. إنها ثورة قطعت مع المورث التقليدي للفكر وشيدت رؤية متكاملة للمعرفة. وهي أيضًا ثورة لأنها أزاحت المركزية الذاتية عن المعرفة وأحلت مركزية الموضوع. لقد أعطى بوبر اهتمامًا كبيرًا للتفريق بين المعرفة الذاتية والمعرفة الموضوعية، كما يتجلى ذلك عند مناقشته للنظرية الكمية في الفيزياء.
لكننا لن نبدأ بالتعرُّف على مشروعه المعرفي في أبعاده الكبرى إلا بعد أن نستعرض الحادثة التاريخية في ميدان العلم الحديث، والتي أدت للزج بمعارف الفيزياء الحديثة في تجاذبات فلسفية متناقضة، وهي بذلك شكَّلت بدايات القلق المعرفي الحديث. هذه الحادثة التي يرويها كارل بوبر تعود إلى بدايات القرن السابع عشر الميلادي عندما وقف العالم الرياضي والفلكي جاليلو أمام المحكمة الكنسية الكاثوليكية مُتهمًا بالهرطقة؛ لتبنيه نظرية كوبرنيكس في أنَّ الشمس تقع في مركز نظامنا الشمسي، وإن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
جاليلو جاليلي كان عالما في الرياضيات والفلك، وهو يُعدُّ أبو الفيزياء الحديثة؛ لأنَّه تفطَّن إلى حقيقة مدهشة وهي المطابقة بين الرياضيات والظواهر الطبيعية، ومن ثمَّ صاغ حركة الأجسام صياغة رياضية؛ فكتب عبارته المشهورة في أحد كتبه أن الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات. وقد اتبع طرق التجريب في البحوث العلمية فهو الذي صعد برج بيزا في إيطاليا وأسقط ثلاث كرات متساوية الحجوم متفاوتة الأوزان، وتوصَّل إلى نتيجة مهمة جدًّا وهي أنَّ جميع الأجسام تسقط باتجاه الأرض بتسارع واحد، فإذا ما سقطت من علو واحد فإنها تصل إلى الأرض في نفس اللحظة إذا ألغينا أيَّ اعتبار للهواء من الحسبان، وهو بذلك قد أطاح برأي أرسطو السائد في الوسط العلمي الذي يرى أنَّ الجسم الثقيل يسقط بمعدل سرعة أكبر من الجسم الخفيف، وهو الرأي الذي استمر مقبولًا لما يقرب من الألفين عام. ومما قام به هذا العالم أنه في العام 1609 صنع منظارًا ذا عدستين، وبدأ بمراقبة حركة الكواكب ودوَّن ملاحظاته ونظرياته في كتاب، وكان ممَّا دونه أمر سبب هزة كبيرة ولحظة صدام مباشرة مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية -أو لنقل مع ظاهر الإنجيل، أو مع التفسير الكنسي الكاثوليكي للإنجيل، والذي لا يعبِّر بالضرورة عن حقيقة الإنجيل- هذه الواقعة وضعتْ معارف الفيزياء الحديثة أمام أزمة معرفية كبرى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. فقد شاهد جاليلو أقمار المشتري تدور حوله، واستنتج -على خلاف تعاليم الكنيسة- أنَّ المشتري وأقماره هو نظام مصغر عن النظام الشمسي، وبذلك انتهى إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، متبنيًا بذلك نظرية كوبرنيكوس في النظام الشمسي، ومعتبرا أنَّ هذه الحركة الظاهرية للشمس حول الأرض هي نتاج حركة الأرض حول نفسها، وقد تمت محاكمته ومنعه من الكتابة حول هذه الأفكار.
لكن ما كانت الكنسية في ذلك الوقت لتعترض على جاليلو وتمنعه من الكتابة وتضعه رهن الاعتقال، لو أنه لم يكن يرى في النظام الجديد الذي تدور فيه الأرض وبقية الكواكب حول الشمس إلا نموذج رياضي أبسط من القديم، يسهل الكثير من الحسابات الفلكية والتنبؤات. كان يمكن للكنيسة أن تتبنى هذا النظام الجديد لا على أساس أنه حقيقة واقعية، بل على أساس أنه نموذج رياضي وظيفي فقط، أو فرضية رياضية، أو ربما خدعة رياضية اختُرعت من أجل تبسيط الحسابات وتقدير أفضل للحوادث الفلكية المعروفة في ذلك الوقت. وفي الواقع لم يكن جاليلو ليقدَّم إلى المحاكمة إذا كان مُنسجمًا مع ما قاله القس أندرياس أوسنايدر الذي عاش في القرن السادس والسابع عشر الميلاديين، وهو كلام يصف بدقة الأزمة في نظرية المعرفة، ويؤسس لهذا التفاعل بين معارف الفيزياء ونظرية المعرفة؛ حيث قال: “لا يوجد حاجة لأن تكون هذه الفرضيات حقيقة، ولا حتى تشبه الحقيقة، بل هناك شيء واحد وهو أنَّ هذه الفرضيات تنتج حسابات تتطابق مع المشاهدات” .
هذه المقولة تضع الفيزياء والعلوم في قلب الأزمة المعرفية.. فهل تتحرَّك الفيزياء مُستهدفة الكشف عن هذا الواقع والتعبير عنه رياضيًّا، أو هي تتحرك في بناء النماذج الرياضية والمفيدة على المستوى العملي، وليس لها قدرة على كشف الحقيقة الواقعية التي لا يتمكَّن للإنسان معرفتها إلا عن طريق الوحي كما تقول الكنيسة؟! فماذا كان موقف جاليلو إزاء هذا التصور المتناقض لدور الفيزياء؟ رغم أنَّ جاليلو يرى في نظام كوبرنيكس وسيلة رياضية للحسابات الفلكية، لكنه في الوقت ذاته يعتقد بأنَّ هذا المحتوى الرياضي هو وصف حقيقي للواقع، وليس مجرد آلة رياضية مفيدة في عدد من التطبيقات الفلكية من غير أن تكون كاشفة عن حقيقة هذا الواقع. وبالطبع فإن الكنيسة لم تكن ترغب في إدراك هذه الحقيقة في النظام الجديد؛ لأنه كان يتناقض مع العهد القديم.
هذا هو السبب الرئيسي لجعل الكنيسة ترى في النظريات العلمية مجرد نماذج مفيدة في عدد من التطبيقات، لكنها خالية من أي محتوى وصفي للعالم.
هناك سببٌ أعمق يكشفه الأسقف الإنجليزي جورج بيركلي بعد مئة سنة تقريبًا؛ وذلك عندما وجَّه نقده لنظرية نيوتن في الجاذبية. كان قد تطور نظام كوبرنيكس في عهد بيركلي الذي عاش في القرن السابع والثامن عشر الميلاديين إلى نظرية نيوتن في الجاذبية، وقد رأى بيركلي أن هذا التطور يمثل خطرًا على الدين، وأنه كلما تقدمت العلوم زاد الخطر على الدين، “على عكس ما يحدث الآن حيث نجد بعض علماء الفيزياء يقاومون بعض النظريات العلمية التي تدعم وجود الخالق”، وانتهى بيركلي بعد تحليله لمفاهيم نظرية نيوتن إلى أنها محض فرضيات رياضية وليست حقائق، هي عبارة عن آلة للحسابات والتنبؤات تعطي توصيفا للظواهر ولا تعكس حقائق الواقع. وخلاصة موقف المتدينين في ذلك الوقت أنَّ العقلَ البشري بدون الوحي الإلهي غير قادر على كشف أسرار الواقع. ويتطابق هذا الموفق مع أصحاب مذهب الشك الذين يشككون في قدرة العقل على الوصل لحقائق يقينية.
وانقسم الفلاسفة بالنسبة للنظرية العلمية بين: فلسفة آلية ترى أن النظرية العلمية لا تصف الواقع، ودورها الأساس قائم في صنع النماذج الرياضية التي تفيد في تطبيقات عملية. وبين فلسفة جوهرية ترى أنَّ النظرية العلمية تصف واقعًا يقبع خلف الظواهر الطبيعية، وأنَّ الهدف النهائي للنظرية العلمية هو الوصول لهذا الواقع وبالتالي ننتهي لتفسير نهائي للظاهرة.
الفيزيائيون ظلُّوا بعيدين عن هذا الجدل الفلسفي غير المحسوم، مُتخذين منهج جاليلو في البحث عن الحقيقة كما تصورها، لكن ذلك كان في الماضي، أما اليوم فالنظرة إلى العلوم الطبيعية على أنها مجرد آلة رياضية تتطابق مع نتائج التجارب ولا تعبر عن حقيقة الواقع كما أسس لها كلٌّ من آسانيدر وبيركلي، هي التي سادت وأصبحت دغمائية مقبولة في الوسط العلمي باستثناء آينشتاين وشرودينجر وآخرين. والسؤال هنا: كيف انتصرت النظرة الآلية هذه؟ يعزو بوبر انتصار الفلسفة الآلية إلى عاملين:
– صعوبة تفسير النظرة الكمية.
– النجاحات العملية التي حققتها النظرية وتطبيقاتها.
هذه الواقعة وضعتْ معارف الفيزياء الحديثة أمام أزمة معرفية كبرى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. ولسوف نستوحي من هذه الواقعة المحاطة بأسوار الشك المعرفي والتفسيرات الفلسفية المتناقضة للمعرفة العلمية طريقنا في مقاربة المشروع الفكري لكارل بوبر في مختلف أبعاده.
يرشح عن هذه الواقعة عددٌ من التساؤلات المركزية في المضمار التي ترتبط به العلوم بمختلف الرؤى الفلسفية؟ منها: إذا كانت للفيزياء أن تمضي في أبحاثها بعيدًا عن هذا الجدل الفلسفي، فما هي الأهمية التي تشكلها نظرية المعرفة على العلوم؟ وقد رأينا في هذه القصة التناقض في تفسير النظرية العلمية، فما هي حقيقة النظرية العلمية من الزاوية المعرفية؟ وكيف تتمايز عن غيرها من النظريات في الحقل الاجتماعي والنفسي والتاريخي؟ وكيف تنمو المعرفة العلمية ضمن إطار التفسير المعرفي للنظرية العلمية؟ وكذلك كيف نضع الحد الذي يفصل العلوم عن الميتافيزياء؟ سنتعرَّف في هذه الورقة بشكل موجز على طريقة مناقشة كارل بوبر لهذه المسائل التي تمثل مراكز ثقل في نظرية المعرفة.
وسنبدأ بالسؤال المهم والمركزي وهو: ما هي أهمية نظرية المعرفة وتأثيرها في واقع العلوم والحياة؟ هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر أعمق يتَّصل بأهمية الفلسفة ذاتها ومدى قدرتها على التأثير العملي على الواقع؟ هناك فلاسفة يعتقدون أن طبيعة الفلسفة لا تملك أية تأثير مهم على مجريات الواقع. لكن كارل بوبر يعتقد أن للأفكار أهمية كبرى في التأثير على الحياة، وأن هذه الأفكار ما كانت لتحظى بالقبول عند الناس لو لم تكن هناك النظرة المعرفية التي ترى أن الواقع يزخر بحقائق موضوعية، وأنه بالتالي يُمكن فهمه والتأثير فيه. يضرب بوبر مثلًا بالثورات التحررية التي بدأت في عصر النهضة في أوروبا، وهي ثورات مستوحاة من قدرة الإنسان على فهم هذا الواقع والتفاعل معه، ثم محاولة تغييره. يرى بوبر أن نظرية المعرفة التي ترى في الواقع حقائق موضوعية، وأن الإنسان يسعى لفهمه ومن ثم التأثير فيه بنظرية المعرفة المتفائلة. إن ميلاد العلوم الحديثة -كما يرى بوبر- هو من وحي هذه النظرة المتفائلة للمعرفة، والتي نظر لها كل من ديكارت وفرانسيس بيكون. وكانت تعاليمهما تؤكد أنَّ الإنسان يحمل في ذاته مصادر المعرفة؛ فالتصورات التي يزوده بها جهازه الحسي تعطيه القدرة على مراقبة الطبيعة ورصد ظواهرها، وعقله يجعله قادرًا على تمييز الحقيقة من غيرها. هذه النظرة المتفائلة ارتبطت تاريخيًّا بالأفكار التحررية؛ فالإنسان يستطيع أن يعرف، لذلك يمكن أن يكون حرًّا. وفي المقابل، فإنَّ النظرة المتشائمة للمعرفة التي تنظر إلى عجز الإنسان عن معرفة الواقع ارتبطت تاريخيًّا مع العبودية والفقر. وتقود هذه النظرة المتشائمة إلى تأسيس تقليد سلطوي يمارس هيمنته على الإنسان.
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل