الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
قلنا بعد إثبات أنّ المعاد أمر ممكن وأنّ تحقّقه لا يستلزم مستحيلاً نصل إلى إثبات ضرورة المعاد. وأحد الطرق هو بيان الوحي الذي أشرنا إليه، وهو الطريق المباشر حيث عرفنا أنّ اللَّه هو أراد هذا الشيء وإرادته لا تتخلف. وعلاوة على ذلك فقد أشار القران الكريم إلى بعض البراهين العقليّة في هذا المجال، ويمكننا استنباط دليلين من مجموع الآيات الواردة في هذا المضمار: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران/191.
فالآية في مقام وصف الذين يتميّزون بالتفكّر علاوة على التفاتهم إلى مقام الربوبيّة، وبعد التفكّر في خلق العالم يصلون إلى هذه النتيجة وهي أنّ خلقه ليس عبثاً ولا باطلاً. ثم ينزّهون الله من فعل العبث، ومن طريق أنّ الخلق ليس باطلاً ينتهون إلى هذه النتيجة وهي أن هناك عالماً آخر أيضاً فيه جنّة ونار ثمّ يعوذون باللّه من عذاب النار. ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾الرعد/2. إنّ أحد الوجوه في توضيح الاستواء على العرش هو أنه تعالى بعد الانتهاء من خلق العالم بدأ بتدبيره، وتأخر التدبير ليس زمانيّاً وإنّما هو رتبيّ، فقوله "ثمّ" أي في مرتبة متأخرة، وأحد مظاهر تدبيره تسخير الشمس والقمر. وقوله سبحانه "لأجل مسمّى" يعني أنّ هذا النظام سوف ينتهي.
وأمّا معنى تفصيل الآيات ففيه وجهان:
1- أنه يجعل الآيات التكوينيّة متميّزة عن بعضها، فقبل الخلق كانت الشمس والقمر وسائر الكواكب وجميع السماوات شيئاً واحداً، وحسب تعبير القران كانت "رتقاً" و "دخاناً"، وأمّا بعد خلق السموات فقد ظهرت مخلوقات متمايزة ومنفصلة، أي أن اللَّه قد فصّل هذه الآيات التكوينية عن بعضها وجعلها متمايزة، وقد ذكر هذا الوجه المرحوم العلاّمة الطباطائي في تفسير الميزان.
2- ذهب سائر المفسّرين إلى أنّ معنى "يفصّل الآيات" مثل سائر الموارد التي استعملت فيها هذه الكلمة هو أنّه يبيّن الآيات في كتابه تفصيلاً. ثمّ يقول في ذيل الآية: ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، أي سواء أكان المقصود هو بيان تميُّز جميع الآيات الإلهيّة في هذا العالم عن بعضها أم كان المقصود هو إلفات النظر إلى الآيات التكوينيّة المدرجة في الآيات التشريعيّة، فإنّه تعالى يريد التأكيد على أنّ هذه الآيات تهديكم إلى المعاد. فالهدف الأساس لهذه الآيات هو تزويد الإنسان بطريق إلى المعاد.
والحاصل: إنّ التأمّل في خلق السموات والأرض وسائر الآيات الإلهيّة يقود الإنسان إلى اليقين بالمعاد سوف نذكر كيفيّة ذلك.﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ .. وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ الأنبياء/. إذاً طريق التفكّر في أنّ خلق السموات والأرض حقّ وليس باطلاً يؤدي إلى إثبات المعاد. ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾المؤمنون/115. فهذه الآية الكريمة اعتبرت وجودَ المعاد وعدم كون الخلقة عبثاً أمرين متلازمين، أي لو لم تكن عودة إلى اللَّه فإنّ لازم ذلك كون الخلقة عبثاً. ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ الروم/8. قال المفسّرون إنّ "الأنفس" ليس متعلق التفكر، وإنّما المتعلّق هو خلق العالم كما نلاحظ ذلك في الآيات الوارد فيها: ﴿َوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ حيث يكون التفكّر متعلّقاً بخلق السموات والأرض. والمراد بالتفكّر في أنفسهم أن يركزوا انتباهم ويحكّموا ضمائرهم فسوف يصلون إلى هذه النتيجة، وهي أنّ خلق العالم ليس إلاّ بالحق.
وهناك سرّ لذكر "أجل مسمّى" بعد قوله "بالحقّ" وهو: إذا كان العالم هو هذا فحسب، فبالالتفات إلى أنّ له أجلاً معيّناً وأن له نهاية وأنّ العوامل الطبيعيّة تؤدّي إلى التزاحم وانتهاء العمر فإنّ لازم ذلك بطلان الخلقة، فهؤلاء ألم يفكّروا في أنفسهم أن اللَّه سبحانه لا يفعل الباطل؟. ثم يقول في ذيل الآية: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾. مع أنه من المناسب أن يفكّر الجميع وينتهوا إلى هذه النتيجة وهي إنّ الخلق ليس باطلاً، وبناءً على ذلك فالمعاد لا بدّ منه، لكنّ أكثر الناس - مع الأسف الشديد - لا يفكّرون حتى يدركوا أن لقاء اللَّه حقّ لا ريب فيه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ص/27. . فسياق الآية والقرائن الموجودة في صدرها وذيلها تبيّن أنه تعالى في صدد إثبات المعاد. ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الدخان/38-39. وقد ورد هذا بعد ذكر قول المشركين والكافرين:﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾ الدخان/35. ثمّ يؤكد في خاتمة المطاف: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾الدخان/40.
* طريقة الاستدلال
من بين الوجوه المختلفة لبيان هذا الاستدلال نختار هذا الوجه الذي هو أوضحها في رأينا:
المقدمة الأولى: إنّ اللَّه جلّ جلاله لا يفعل العبث، وأفعاله كلها حقّ أي حكيمة.
المقدمة الثانية: إنّ جميع ظواهر هذا العالم فانية بحكم القوانين المسيطرة عليها، والشاهد على ذلك التأكيد المتكرر على قوله "أجل مسمّى" في الآيات التي هي موضوع البحث.
المقدمة الثالثة: لو لم يكن شيء آخر وراء هذه الظواهر فإنّ خلق العالم يصبح عبثاً.
توضيح ذلك: إنّ أفعالنا في هذا العالم لا تكون عقلائيّة إلا إذا كانت لها نتائج أرفع منها. فمثلاً قيمة المصنع الذي يُشيّد برأس مال وقوى عاملة تكون بما له من ربح، ولو كانت نتيجته أقلّ من المبلغ الذي أُنفق في تشييده، فإنّ القيام بذلك يعتبر من ألوان الحماقة، بل وحتى إذا كانت النتيجة مساوية لما أُنفق فيه أيضاً. وهذا يشبه ما لو قام عالم بصناعة جهاز كمبيوتر ثمّ بعد إكماله يلقيه في الفرن ليذيبه!. وصحيح إنّ الأمثلة تختلف كثيراً عمّا نمثّل له، وهي ليست صادقة في مورد اللَّه تعالى، لأنّه لا يلقى من فعله نصبا:﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. ولكنّ ذكر هذه الأمثلة يكون من أجل توضيح الوجه المشترك بينها، وهو القيام بفعل حكيم من أجل الحصول على نتيجة قيّمة. أي إنّ اللَّه يبدع هذا العالم بكل الحكم والأسرار الكامنة فيه ولاسيّما خلق موجود معقّد كالإنسان الذي يتميّز كل عضو من أعضائه بأسرار وعجائب ثم يُصدر أمره بتخريب الجميع ويأمر عزرائيل بقبض جميع الأرواح! وليس هناك أيّ نتيجة لهذه الأمور؟! ﴿فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًاً﴾ طه/106-107.
وإن زعم أحد أن اللَّه ليس بخيلاً لكنّ العالم ليس له مثل هذه السعة، فاللَّه لا يمسك نعمته إلاّ أنّ العالم لا يتمتّع بإمكانيّة الدوام والاستمرار، أجبناه: إنّ إحياء الناس أمر ممكن ولا يلزم من تحقّقه مستحيل ولا أيّ تناقض. وبناءً على هذا فإنّ عدم الإحياء ليس إلاّ بخلاً وإمساك فيض. بمعنى أنّه قد خلق موجودات يمكن إعدادها لحياة أبدية، لكنّ اللَّه لا يمنّ عليها بالحياة الأبدية. ويشبه هذا فعل الفلاّح الذي يزرع شجرة الفاكهة ثمّ يجتثّها من جذورها. إذاً لو لم يُحيِ اللَّه الناس في يوم القيامة فقد فعل عبثاً، أي أن هناك موجوداً مؤهّلاً لنيل الفيض الإلهي اللانهائي اللانهائية الزمانية: هم فيها خالدون لكنّ اللَّه لا يوصله إلى فعليّته. وقد ذكرنا أنّ الهدف النهائي للخلق هو إيصال الرحمة الإلهيّة واللامتناهية إلى المخلوقات. وقلنا أيضاً إنّ هذه هي غاية المخلوقات، والهدف الإلهيّ بالمعنى الدقيق هو نفس الذات الإلهيّة، إلاّ أنّ المراد هنا هو الهدف التَبعي وفي المرتبة الثانية النازلة يحبّ إيصال النفع والرحمة إلى مخلوقاته تبعاً لحبّه لذاته.
إذاً لمّا كان خلق السماء والأرض ليس عبثاً فلا بدّ أن يترتّب عليه غرض حكيم ولا بدّ أن تصل هذه الموجودات إلى النهاية التي تستطيع الوصول إليها، وإذا ماتت فإنها لن تصل إليها إلاّ إذا كان هناك عالم آخر. والحاصل: إن الحكمة الإلهيّة تقتضي وجود عالم آخر بعد هذا العالم ليتمكّن الناس من الظفر بحياة خالدة فيه حتى لا يكون خلق هذا العالم عبثاً.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان