علمٌ وفكر

ما هو الفارق بين المذهب الحسي والمذهب العقلي (2)


السيد منير الخباز

وأمّا المذهب العقلي، فإنّه يقرّر - في مقام الاستدلال على منهجه - أنّنا نرى بالوجدان معاني ومعارف ومعلومات لم تنبثق عن الحس، وهي:
الأمر الأوّل: معرفة ماهية الأشياء.
فإنّنا لا نتعرّف على أنَّ الإنسان - مثلًا - ماهيته حيوان ناطق عن طريق الحسّ، وإنّما يعرّفنا الحس بشكل الإنسان ومظهره، وأمّا إدراك حقيقة الإنسان التي تتألّف من عنصرين: حيوانية وناطقية - بمعنى أنَّ لكلّ إنسان مبدأ للإحساس والحركة والنمو من ناحية، وقدرة عقلية لغوية من ناحية أخرى - فلا يمكن إدراكها إلا عن طريق العقل؛ لأنَّ التجربة الحسّية لا توصلنا إلا إلى الظواهر المحسوسة.

الأمر الثاني: المعاني العامة.
كالوجود مثلًا، فإنّما أدرك الإنسان أنَّ هناك خيطًا يجمع كل الأشياء - كالشجر والحجر والحيوان والإنسان والكواكب والمجموعات الشمسية - اسمه الوجود عن طريق العقل، وكذلك التحقّق والعلّيّة ونحو ذلك من المعاني العامة التي لا يمكن أن تنبثق من الحس، بل لا بدَّ لها من مصدر آخر.

الأمر الثالث: المعارف الميتافيزيقية.
والمقصود بالميتافيزيقا: ما وراء المادة، فمثلًا: نحن لا ندرك بحواسنا إلا هذا الجسم الذي يمشي به الإنسان، فمن أين نعرف أنَّ لهذا الإنسان نفسًا وروحًا؟ من الواضح أنَّ النفس ليست معلومة مادية، بل هي معلومة وراء المادة، ولذلك يستدل عليها الفلاسفة بالعقل، فيقولون: إنَّ كل شيء مادي يقبل الانقسام، فلو كانت النفس شيئًا ماديًّا لقبلت الانقسام إلى فوق وتحت وإلى يمين ويسار وإلى قبل وبعد، بينما عندما نقول: «أنا» نجد أنَّ المشار إليه بهذه الكلمة لا يقبل الانقسام، وهذا يعني أنَّ النفس ليست أمرًا ماديًّا.

كلام ديكارت في التصديقات الفطرية:
تحدّث ديكارت - الذي يعتبر من أئمة المذهب العقلي - عن التصديقات الفطرية، من قبيل: لكل مسبَّب سبب، والكل أعظم من الجزء، فقال: إنّما نثبت أنَّ لنا تصديقات فطرية لأنّ لنا تصوّرات فطرية، فوجود التصوّرات الفطرية يقود إلى وجود تصديقات فطرية، ولكن ما هي التصورات الفطرية؟
ذكر ديكارت أنَّ الأشكال والأعداد والحركات كلها تصوّرات فطرية، فالطفل عندما يتعلّم الأعداد لا يجد نفسه أنه يتعلّم، بل يجد نفسه أنه يتذكّر، وكأنّما هناك شيء مغروس عنده وهو الآن يتذكّره عندما يقال له: واحد واثنان وثلاثة، ولذلك لا يرى أنّ هذه الأعداد تحتاج إلى جهد وتعلّم واكتساب، بل يرى أنّها تذكّره بأشياء مختزنة في نفسه.
وكذلك عندما يتعلّم الأشكال - كالمثلث والمربع والمستطيل - فإنّه لا يرى أنَّ هذه الأشياء تحتاج إلى اكتساب، ولكن يرى أنّها تذكّره بصور هي موجودة مختزنة في ذهنه، وكذا عندما يتعلّم الحركات - كالحركة المستديرة، والحركة المستقيمة، والحركة العمودية، والحركة الأفقية - يرى أنّها أشياء بديهية.
فشعور الإنسان بأنّه يتذكّر الأعداد والأشكال والحركات لا أنّه يتعلّمها دليلٌ على وجود تصوّرات فطرية، وكما توجد تصوّرات فطرية سبقت التجربة، توجد أيضًا تصديقات فطرية، وهي قضايا تصديقية سبقت التجربة، ولذلك نجد الإنسان بوجدانه وفطرته يستطيع أن يتصوّر في ذهنه شكلًا غير موجود في العالم كلّه، فليس هو بمثلث ولا دائري ولا مستطيل، وعندما يتصوّر هذا الشكل يرى أنّ له معنى وإن كان هذا المعنى غير موجود في الخارج، ومثل هذه التصوّرات الفطريّة شاهدٌ على وجود أمور مغروسة في الفطرة.

الفارق الثالث: علاقة الحس والعقل.
إنَّ المدرسة الحسية تقول: نحن لا نلغي دور العقل، لكن دوره ثانوي وليس دورًا أساسيًا في المعرفة، إذ الدور الأساسي في المعرفة للحسّ والتجربة، وأمّا العقل فدوره دور مساعد وثانوي.
ويتّضح معنى ذلك بالرجوع إلى كلام ديفيد هيوم، حيث ذكر أنَّ المحتويات العقلية انطباعاتٌ وأفكارٌ، والأفكار هي شريط الانطباعات وذكرياتها، ومعنى ذلك أنَّ الإحساس إذا تعلّق بالواقع تأتي صور وتنطبع في الذهن، فمثلًا: عندما يرى الإنسان النار تنطبع صورتها في ذهنه، وعندما يقترب من النار يشعر بالحرارة فتنطبع صورة أخرى، وهي صورة الحرارة، وهكذا أتت الصورة الثانية عقيب الأولى.
فالمرحلة الأولى هي مرحلة الانطباعات، وإذا تكرّرت هذه الانطباعات يحصل نسقٌ في الذهن يعبَّر عنه بالنسق والنظم، أي: نتيجة هذه الانطباعات يصبح في ذهنك شريط نار وحرارة، ومن هذا النسق والنظام الموجود في الذهن يصل العقل إلى معلومات فيزيائية، فيقول مثلًا: إنَّ النار وجود مفيض للحرارة، فالعقل دوره دور ثانوي، وإلّا فالذي زوّدك بالصور وزوّدك بنظام ونسق بين هذه الصور هو التجربة الحسية، ثم أتى العقل وأدرك هذا النسق والنظام فقال: إنَّ النار موجود مفيض للحرارة، وهذا يعني أنَّ دور العقل دور ثانوي، وهو أخذ الأفكار من الانطباعات، فالانطباع - الصور المتتابعة - تأتي من الحس، ثم يأتي دور العقل في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الأفكار المأخوذة من تلك الانطباعات.
 

رأي المدرسة العقلية:
وأمّا المدرسة العقلية فتقرّر أنَّ المصدر الأول للمعارف هو العقل، وأمّا المعلومات الحسية فهي مسرح للمعلومات العقلية، وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: توجيه الحواس لالتقاط المعلومات، وهي من دور العقل، فالعقل هو الذي يوجّه البصر للمبصرات، ولا يوجّه البصر للمسموعات، ولا يوجّه السمع للمبصرات، فهناك قوة توجّه البصر لنوع معين من المعلومات، وتوجّه السمع لنوع معين من المعلومات، وهي قوّة العقل.
المرحلة الثانية: المقارنة بين الصور التي تأتي إلى الذهن من أجل انتزاع معاني يعبَّر عنها اليوم بالأفكار، وانتزاع معاني من الصور من شؤون العقل أيضًا.
المرحلة الثالثة: التعميم وإعطاء الكليات، أي أنَّ العقل يبدأ يعمّم المعلومات التي استفادها، فالعقل هنا يستخدم الصور مسرحًا له يجول فيه، وهذا يعني أنَّ المعلومات الحسية مسرح للمعلومات العقلية، فالعقل يقوم بجمع هذه الصور والمقارنة بينها وانتزاع معاني كلية منها ثم يقول: كل نار حارة، ولكل حادث سبب، والكل أعظم من الجزء، فالعقل يستعين بالمبادئ القبلية التي عنده على التصرّف في هذه الصور وتعميمها لغير نطاق التجربة.

الخاتمة:
فهذه ثلاث فوارق أساسية بين المدرسة الحسية والمدرسة العقلية، ولذلك اختلفت هاتان المدرستان في قضايا أساسية جدًا تقوم عليها نظرية المعرفة، وسيأتي بحثها في الأسابيع القادمة إن شاء الله، من قبيل: قضية هل هناك يقين مطلق أم اليقين دائمًا نسبي؟ وهل هناك أساس منطقي للسببية أم لا؟
وعندما كتب السيد الشهيد الصدر - رحمة الله عليه - كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» عالج قضية واحدة فقط من هذه القضايا، وهي: هل هناك أساس منطقي لمبدأ السببية والاستقراء أم لا؟ فإنَّ هذه القضية أساسية ومحورية بين المدرستين الحسية والعقلية.
القضية الثالثة: هل هناك معارف ميتافيزيقية أصلًا؟ هل هناك أرواح مثلًا أم لا يوجد شيء وراء المادة والطبيعة؟ والقضية الرابعة الأساسية بين هاتين المدرستين: هل توجد معانٍ كلية يملكها الإنسان، أم لا؟ هذا كله يأتي الكلام عنه إن شاء الله في الأسابيع الآتية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد