السيد محمد باقر الصدر
1- الدين سنّةٌ تاريخيّة من الشكل الثالث
وأهمّ مصداقٍ يعرضه القرآن الكريم للشكل الثالث من السُنن1 هو الدين. القرآن الكريم يرى أن الدين نفسَه سنّة موضوعيّة من سُنن التاريخ، وليس الدين فقط تشريعاً، ولهذا يعرض الدين على شكلين:
أ- الدين شريعة
تارةً يعرضه بوصفه تشريعاً كما يقول علم الأصول، بوصفه إرادةً تشريعيّةً، مثلاً يقول: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه﴾ِ2، هنا يبيّن الدين كتشريعٍ، كقرارٍ، كأمرٍ من الله سبحانه وتعالى.
ب- الدين سنّة
لكن في مجالٍ آخر يبيّنه سنّةً من سُنن التاريخ، وقانوناً داخلاً في صميم تركيب الإنسان وفطرة الإنسان؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾3.
هنا الدين لم يعد مجرّد تشريعٍ، مجرّد قرارٍ من أعلى، وإنّما الدين هنا فطرةٌ للناس، هو فطرة الله التي فطر عليها الناس، ولا تبديل لخلق الله. هذا الكلام كلامٌ موضوعيٌّ خبريٌّ لا تشريعيٌّ إنشائيٌّ، لا تبديل لخلق الله، يعني كما أنّك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان أيّ جزءٍ من أجزائه التي تقوّمه، كذلك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان دينه. الدين ليس مقولةً حضاريّةً مكتسبةً على مرّ التاريخ، يمكن إعطاؤها، ويمكن الاستغناء عنها، لأنّها في حالةٍ من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الإنسان، من خلال تطوّراته المدنيّة والحضاريّة على مرّ التاريخ.
القرآن يريد أن يقول بأن الدين ليس مقولةً من هذه المقولات، بالإمكان أخذها وبالإمكان إعطاؤها، الدين خَلْقُ الله ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾. "ل" ليست ناهية، بل نافية، يعني هذا الدين لا يمكن أن ينفكّ عن خلق الله ما دام الإنسان إنساناً، فالدين يعتبر سنّة لهذا الإنسان. هذه سنّةٌ ولكنّها ليست سنّةً صارمةً على مستوى قانون الغليان، سنّة تقبل التحدّي على الشوط القصير، كما كان بإمكان تحدّي سنّة النكاح، سنّة اللقاء الطبيعيّ والتزاوج الطبيعيّ، كما كان بالإمكان تحدّي ذلك عن طريق الشذوذ الجنسيّ، لكن على شوطٍ قصيرٍ، كذلك يمكننا أيضاً تحدّي هذه السنّة على شوطٍ قصيرٍ عن طريق الإلحاد، وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرى. بإمكان الإنسان أن يرى الشمس، أن يغمض عينه عن الشمس ويلحد ولا يرى هذه الحقيقة، ولكن هذا التحدّي لا يكون إلّا على شوطٍ قصيرٍ؛ لأنّ العقاب سوف ينزل بالمتحدّي يعاقب بسنن التاريخ نفسها. وقد أشير إلى هذه الخاصية أيضاً بقوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾، هذه العبارة التي خُتمت بها الآية الكريمة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾4
هذه الجملة الأخيرة إشارةٌ إلى أن هذه السنّة من الشكل الثالث، أي إنّ للناس أن يتّخذوا مواقف سلبيّة وإهماليّة تجاه هذه السنّة، ولكنّه إهمال على الشوط القصير لا على الشوط الطويل.
2 ـ تحليل عناصر المجتمع
سوف نسعى لكي نحلل عناصر المجتمع على ضوء هذه الآية الكريمة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾5.
على ضوء هذه الآية التي تعطينا أروع وأدقّ وأعمق صيغةٍ لتحليل عناصر المجتمع، سوف ندرس هذه العناصر ونقارن ما بينها؛ لنعرف في النهاية أنّ الدين سنّة التاريخ، وليس مجرّد حكمٍ شرعيٍّ قد يطاع وقد يعصى.
عناصر المجتمع في القرآن
حينما نستعرض هذه الآية الكريمة نجد أنّ الله سبحانه وتعالى ينبّئ الملائكة بأنّه قرّر إنشاء مجتمعٍ على الأرض.
هناك ثلاثة عناصرٍ يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية:
أولاً: الإنسان.
ثانياً: الأرض أو الطبيعة على وجهٍ عام.
ثالثاً: العلاقة المعنويّة التي تربط الإنسان بالأرض وبالطبيعة، وتربط من ناحيةٍ أخرى الإنسان بأخيه الإنسان، هذه العلاقة المعنوية التي سمّاها القرآن الكريم بالاستخلاف.
هذه هي عناصر المجتمع، الإنسان والطبيعة والعلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالطبيعة من ناحيةٍ، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان من ناحيةٍ أخرى، وهي العلاقة التي سميت قرآنيّاً بالاستخلاف.
ونحن حينما نلاحظ المجتمعات البشريّة؛ نجد أنّ المجتمعات البشريّة جميعاً تشترك بالعنصر الأوّل والعنصر الثاني. لا يوجد مجتمعٌ بدون إنسانٍ يعيش مع أخيه الإنسان، ولا يوجد مجتمعٌ بدون أرضٍ أو طبيعة يمارس الإنسان عليها دوره الاجتماعيّ. وفي هذين العنصرين تتّفق المجتمعات التاريخيّة والبشريّة.
وأما العنصر الثالث: وهو العلاقة، ففي كلّ مجتمعٍ علاقةٌ كما ذكرنا ولكن المجتمعات تختلف في طبيعة هذه العلاقة، وفي كيفيّة صياغة هذه الطبيعة.
العنصر المرن في المجتمعات
فالعنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرّك من عناصر المجتمع. وكلّ مجتمعٍ يبني هذه العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان من جانبٍ، بالطبيعة بالجانب الآخر، يبني العلاقة بشكلٍ قد يتّفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لهذه العلاقة.
وهذه العلاقة التي هي العنصر الثالث، العنصر المرن والمتحرّك في تركيب المجتمع، لها صيغتان أساسيتان:
إحداهما: صيغة رباعيّة وقد أُطلق عليها اسم "الصيغة الرباعيّة".
والأخرى: صيغة ثلاثيّة.
أ- الصيغة الرباعيّة
هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والإنسان مع الإنسان. هذه أطراف ثلاثةٌ. فالعلاقة إذاً اتخذت صيغةً تربط بموجبها بين هذه الأطراف الثلاثة وهي: الطبيعة، والإنسان، مع أخيه الإنسان، ولكن مع افتراض طرفٍ رابعٍ أيضاً في هذه العلاقة، فأسميت هذه الصيغة بالصيغة الرباعيّة. الصيغة الرباعيّة تربط بين هذه الأطراف الثلاثة، ولكنّها تفترض طرفاً رابعاً، بُعداً رابعاً للعلاقة الاجتماعيّة، وهذا الطرف الرابع ليس داخلاً في إطار المجتمع، هو خارجٌ عن إطار المجتمع، ولكن الصيغة الرباعيّة للعلاقة الاجتماعيّة تعتبر هذا الطرف الرابع مقوّماً من المقوّمات الأساسيّة للعلاقة الاجتماعيّة، على الرغم من أنّه خارج إطار المجتمع، وهذه الصيغة الرباعيّة للعلاقة الاجتماعيّة ذات الأبعاد الأربعة هي التي طرحها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف.
الاستخلاف
الاستخلاف هو العلاقة الاجتماعيّة من زاوية نظر القرآن الكريم، وعند التحليل نجد أنّه ذو أربعة أطراف؛ لأنّ الاستخلاف يفترض مستخلِفاً أيضاً. لا بدّ من مستخلَف ومستخلَف عليه، ومستخلِف. فهناك إضافة إلى الإنسان، وأخيه الإنسان، والطبيعة، يوجد طرفٌ رابعٌ في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف، وهو المستخلِف إذ لا استخلاف بدون مستخلِف، فالمستخلِف هو الله سبحانه وتعالى، والمستخلَف هو الإنسان وأخوه الإنسان، أي الإنسانيّة ككلّ، الجماعة البشريّة، والمستخلَف عليه هو الأرض، وما عليها، ومن عليها.
فالعلاقة الاجتماعيّة ضمن صيغة الاستخلاف تكون ذات أطرافٍ أربعةٍ، وهذه الصيغة ترتبط بوجهة نظرٍ معيّنةٍ نحو الحياة والكون، بوجهة نظرٍ قائلةٍ بأنّه لا سيّد ولا مالك ولا إله للكون وللحياة إلّا الله سبحانه وتعالى، وأنّ دور الإنسان في ممارسة حياته إنّما هو دور الاستخلاف والاستئمان، وأيّ علاقةٍ تنشأ بين الإنسان والطبيعة، فهي في جوهرها ليست علاقة مالكٍ بمملوكٍ، وإنّما هي علاقة أمينٍ على أمانةٍ استؤمن عليها، وأيّ علاقةٍ تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان، مهما كان المركز الاجتماعيّ لهذا أو لذاك، فهي علاقة استخلافٍ وتفاعلٍ، بقدر ما يكون هذا الإنسان أو ذاك مؤدّياً لواجبه بهذه الخلافة، وليست علاقة سيادةٍ أو ألوهيّةٍ، أو مالكيّةٍ.
ـــــــــــ
1- تقدم الشكل الثالث بأنه شكل الإتجاه الطبيعي لا أنه قانون صارم، و الإتجاه يمكن تحديه، بينما القانون لا يقبل التحدي أبداً.
2- الشورى:13.
3- الروم: 30.
4- الروم:30
5- البقرة:29و30.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع