علمٌ وفكر

العصمة بين الجبر والاختيار (2)


الشيخ محمد العبيدان
العصمة والاختيار:
قد عرفت من خلال ما تقدم، أن موجب القول بإنكار العصمة عند بعض يعود لعدم قدرتهم على التوفيق بين ثبوتها وبين كون الإنسان مختاراً، لأنهم يقررون أن اللازم من وجود العصمة عند إنسان أن يكون مسلوب الحرية والاختيار، وأنه مجبور.
وقد استند هؤلاء في دعواهم لجبرية العصمة إلى أمور:
منها: بشرية المعصومين:
فإن مقتضى الالتـزام ببشرية المعصومين تستدعي البناء على القول بالجبر لو بني على ثبوت العصمة فيهم، لأن الإنسان مخلوق ضعيف مركب من عنصرين، مادي ومعنوي، ويتركب العنصر المادي من قوى، إحداها القوى الشهوية، ولا يختلف المعصومون عن بقية البشر في وجود العنصر الشهوي عندهم، وهذا بنفسه يكفي لأن يكون صدور الخطأ والمعصية منهم متصوراً، ولا مجال لنفيه إلا من خلال البناء على كونهم مجبورين على عدم المعصية.
وبكلمة أخرى، إن مقتضى البشرية الثابتة لهم تستدعي أن يصدر منهم ما يصدر من عامة الناس، ولما كان عامة الناس يصدر منهم المعاصي والذنوب، فإن ذلك يقضي بصدور ذلك منهم أيضاً.
وما ذكر من بشرية المعصومين(ع) ليس أمراً مرفوضاً بل هو مسلم، إلا أن الأمر الذي فات المدعي لجبرية العصمة، غفلته عن تفاوت الاستعداد عند الأفراد، فليس جميع البشر على مستوى واحد في ذلك، وقد أوجبت غفلته عن التفاوت المذكور قياسه الناس على مستوى واحد، فتصور أنه لا يوجد من يملك القدرة والاستعداد على حجب نفسه عن كل ذنب ومعصية بإرادة منه واختيار، مع أن الصحيح كما يرى خارجاً هو ثبوت التفاوت ووجود القابلية عند كثيرين في أن يمنعوا أنفسهم من الإقدام على المعاصي والذنوب، فلا تمنع البشرية بما هي هي أن يكون الإنسان قادراً على حجب نفسه منعها من الإقدام على المعاصي بإرادته واختياره.

ومنها: حقيقة العصمة لغة:
فإن الرجوع لكلام أهل اللغة لمعرفة المقصود من العصمة وبيان حقيقتها وتحديد من هو المعصوم، يفيد أنها تعني المنع، وأنه الممتنع، وهذا المعنى يستبطن الجبر وعدم الاختيار، فإن الشخص الممتنع عن الإقدام على فعل ما وليكن المعصية والخطيئة، لا يكون امتناعه عنها باختياره وإرادته، بل يكون بإجباره على ذلك، لأن نفس المفهوم المذكور أعني المنع يتضمن هذا المعنى.
وقد أوجب هذا الفهم لحقيقة العصمة بحسب معناها اللغوي حصول هذا التوهم عن المانعين من وجود العصمة، فقرروا أنها لو كانت موجودة عند شخص كالمعصومين(ع)، فلن يكون وجودها عندهم عن اختيار وإرادة، وإنما سوف يكون عن جبر وإكراه.
ولا يخفى ما فيه، لأن العصمة بحسب المعنى اللغوي تطلق على المقدمات للمنع، وهي الأسباب بحيث تجعل المقدمات والوسائل تحت تصرف الشخص، وهو يقرر الفعل أو الترك، وهذا يعني أنه لا يوجد حال الإقدام على الفعل أو الترك جبر أصلاً، وليس هناك سلب للإرادة، لأن المفروض أنه هو الذي قرر الإقدام على الفعل بعدما اتضحت أمامه المقدمات، وعلم بالنتائج المترتبة عليها.

ومنها: دلالة بعض الآيات والنصوص:
فإن القرآن الكريم وإن خلا من الحديث عن مفهوم العصمة بصورة جلية واضحة، إلا أن جملة من آياته الشريفة قد تضمنت ما يشير إلى معناها، مثل: المخلصين، وهم الفئة الوحيدة المحفوظة من نزعات الشيطان، والذين طهرهم الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك من التعبيرات التي تضمنتها الآيات الشريفة.
وقد أوجب وجود مثل هذه المفاهيم في القرآن الكريم وهم بعضهم فظن أنها تكشف عن كون المتصفين بها مجبورين على ترك الذنوب والمعاصي، لأن طهارتهم وخلوصهم قد نسب لله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي قد أخلصهم من الشوائب، وطهرهم من الذنوب، وليس ذلك بإرادة واختيار منهم أنفسهم، وهذا يكشف عن أن ذلك أمراً جبرياً، وليس أمراً اختيارياً قد صدر عنهم.
ومثل ذلك قوله تعالى:- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)[5]، فقد تضمنت نسبة الطهارة من الرجس بصورته العامة إلى الإرادة الإلهية، فلو لم يرد الله سبحانه وتعالى ذلك لم يحصل لهم التطهير منه، وهذا يعني أن هذا لم يكن أمراً اختيارياً، بل كان أمراً خارجاً عن حدود قدرتهم وإرادتهم، فهم مجبورون عليه، ويساعد على ذلك كون الإرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية وليست تشريعية.
وهذا أيضاً ما يظهر من غير واحد من النصوص، فقد ورد عن الإمام الرضا(ع) –في حديث-أنه قال: وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده، شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يع بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده[6]. فإن ملاحظة السياق تفيد أن جميع ما أعطيه من الصفات لم يحصل عليها بإرادته واختياره، وإنما قد أودعت فيه وأعطيت له، فهو مجبور في الاتصاف بها والحصول عليها.

وأوضح منه في الدلالة ما جاء عنه(ع) أيضاً في بيانه لصفات الإمام، إذ يقول: الإمام المطهر من الذنوب، المبرأ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم بالحلم[7].
وجاء في الزيارة الجامعة: عصمكم الله من الزلل، وآمنكم من الفتن، وطهركم من الدنس، وأذهب عنكم الرجس[8]. وهي لا تختلف من حيث الدلالة عن آية التطهير.
ويندفع هذا الأمر حال الالتفات إلى أن جميع الأفعال الصادرة عن الله سبحانه وتعالى في طول الأفعال الصادرة عن الإنسان، ويترتب على ذلك أنه يمكن نسبة أفعال الإنسان جميعها إلى الله سبحانه، كما يمكن نسبتها إلى الإنسان نفسه، لأنه لا يتحقق فعل من الأفعال في عالم الوجود إلا بالإرادة التكوينية لله تعالى، نعم هذه الإرادة في طول إرادة الفاعل المختار.
نعم قد لا يكون الجواب المذكور صالحاً لدفع ما جاء في رواية الإمام الرضا(ع) الثانية والتي تضمنت حديثه(ع) عن صفات الإمام(ع)، لصراحتها في أن العصمة أمر غير اختياري.
ويمكن الجواب عن ذلك، بمنع صراحتها في الظهور، وأنها بصدد الإشارة إلى أن هذا المنصب لا يناله كل أحد، وإن هو بحاجة إلى مقدمات وقابلية متوفرة في الشخص حتى يكون صالحاً أن يعطى هذه الصفة ويحظى بهذه الملكة، فما تضمنته من ذكر لا يعني الجبر، وإنما يشير إلى أن الوصول لهذه الأمور ليس في متناول كل أحد، فتأمل.

آثار القول بجبرية العصمة:
ولو لم تكن الإجابات المقدمة عن الأمور المذكورة دليلاً على جبرية العصمة كافية لرفع هذه الشبهة، وردها، فإنه يمكن أن يتخذ طريق آخر ببيان الآثار السلبية المترتبة على القول بكونها أمراً جبرياً ليس للمعصوم فيه إرادة ولا اختيار:
منها: البناء على عدم أفضلية الأشخاص المتصفين بصفة العصمة على غيرهم:
فإنه مع الالتـزام بأن عصمتهم جبرية وليست اختيارية، فلن يكون لهم أي فضل على سائر البشر، لأن اجتنابهم السيئات، وفعلهم الحسنات لم يكن بإرادة منهم، ولا اختيار لهم في ذلك، وهذا يتنافى وجملة من الآيات الشريفة التي تضمنت تفضيلهم، واصطفائهم على الآخرين، إذ يقول تعالى:- (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)[9]، ويقول سبحانه:- (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار)[10]، وعليه على كل من يدعي أن العصمة من الأمور الجبرية، أن يجيب عن ظاهره هذه الآيات الدالة على التفضيل الحاصل للمعصومين(ع) على بقية البشر.

ومنها: عدم الانسجام مع التكليف:
إن البناء على كون المعصومين(ع) مجبرين على ما يقومون به من الأفعال لا ينسجم مع كونهم مكلفين، لأن المفروض أن من شروط التكليف القدرة على الفعل والترك، وهذا لا ينسجم مع كون المعصوم مجبوراً على الترك، والفعل، فإنه لا يمكنه أن يترك، بل هو ملزم بالفعل دائماً، فكيف يكون مكلفاً، وهو غير قادر.
ومنها: عدم الاستحقاق للثواب:
من المعلوم أن استحقاق الثواب يكون على الطاعة، كما أن استحقاق العقاب يكون على المعصية، فإذا كان المعصوم مجبوراً في ما يأتي به من الأفعال الصالحة، فلن يكون مستحقاً حينئذٍ للثواب عليها، لأنه حتى يكون مستحقاً لذلك لابد أن ينطبق عليه عنوان الطاعة الذي من شروطه الاختيار، والقدرة على الفعل والترك، وهذا لا يتصور في حق من يكون مجبوراً على الفعل دائماً وأبداً.
ومنها: انتفاء مفهوم العصمة:
فلن يكون أي فائدة لأن يوصف شخص ما بكونه معصوماً، لأن مقتضى معنى هذا المفهوم لغة واصطلاحاً أن يكون الموصوف به ممتلكاً القدرة على الفعل والترك، فكما يمكنه أن يأتي بالواجبات، يمكنه أيضاً أن يفعل المناكير، وهذا يعني أن الوصف من صغريات الملكة والعدم، فلا يصح وصف من لا يملك القابلية على الاتصاف بها لعدم وجود الملكة عنده كالصغير، ومن الواضح جداً أن المجبور فاقد لذلك، فلا يمكن أن يكون موصوفاً بها، وعليه، يلزم انتفاء مفهومها خارجاً.
ومنها: فقدان القيم الإنسانية:
فإن البناء على جبرية العصمة يستلزم خروج المعصوم عن دائرته البشرية والإنسانية، لفقدانه أبرز الصفات المطلوبة في الإنسان وهي الحرية والاختيار، والإرادة، وسوف يتحول إلى مجرد آلة تخضع لما يلقى إليها، وتقوم بتنفيذه[11].
 ــــــــــــــــــ

[5] سورة الأحزاب الآية رقم 33.
[6] الكافي ج 1 كتاب الحجة باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح 2 ص 202-203.
[7] معاني الأخبار ص 98.
[8] بحار الأنوار ج 99 ص 129.
[9] سورة الدخان الآية رقم 32.
[10] سورة ص الآية رقم 47.
[11] دراسات في العصمة ص 45-53(بتصرف).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد