علمٌ وفكر

هدفية غيبة الإمام «عج» (1)


السيد منير الخباز
هناك برهانان لضرورة الغيبة:
•  البرهان الأوّل: البرهان العام الذي لا يرتبط بالشيعة المؤمنين بخصائص الأئمّة  .
•  البرهان الثاني: وهو البرهان الخاص الذي يرتبط بالشيعة المؤمنين بخصائص أهل البيت  .

البرهان الأوّل: البرهان العام.
نتحدّث أوّلًا عن: البرهان العام، ما هو البرهان على ضرورة أن يعيش الإمام هذا العمر الطويل كي يتمكّن من تحقيق العدالة التامة؟ وهنا نطرح ثلاثة أسئلة:
السؤال الأوّل: ما معنى التكامل اليقيني؟
التكامل اليقيني يقسّمه الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
مثلًا إذا رأيت الدخان فستستيقن بوجود النار، إذ لولا وجود النار لما وُجِد الدخان، فتستدلّ على المؤثر بأثره، فاليقين بوجود النار نتيجة رؤية الدخان هو أوّل درجة من درجات اليقين، وهذا يُسمّى بعلم اليقين، وإذا مشيت وراء الدخان إلى أن رأيت النار بعينيك، ألا يتأثر يقينك بوجود النار نتيجة رؤية الدخان؟ نعم، فدرجة اليقين اكتملت وازدادت وتحوّلت من علم اليقين إلى عين اليقين، فصارت عندك درجة أخرى من اليقين. ولو أن شخصًا قد أسقطك في النار وشعرت بالحرارة النارية بحيث صارت الحرارة عن طريق الانصهار، فدرجة اليقين تكاملت إلى أن وصلت إلى أعلى درجة، وهي ما نُسمّيها بحق اليقين، وهذا ما يذكره القرآن الكريم: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقين * لَتَرَوُنَّ الْجَحيمَ﴾، هذه درجة من درجات رؤية النار، ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقينِ﴾، أي درجة أخرى، فعندما يأتي يوم القيامة ويحسُّ الإنسان بحرارة النار سيستيقن بوجودها، فإذا رآها أمامه ازداد يقينه، فإذا اُلقي فيها ازداد يقينه إلى درجة حق اليقين: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقينِ﴾، فالتكامل اليقيني يعني أن الإنسان ينطلق من درجة إلى درجة أخرى من درجات اليقين، وحتّى اُصور لك الموضوع بشكل أوضح، نأتي مثلًا إلى الرسول  ، هل أن الرسول يتكامل يقينه؟

نحن نلاحظ بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتيلًا﴾، هل كان الرسول   يعيش حالة شكّ أو ارتياب؟ كلا، إذن فما معنى ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾؟
إن مقصود ذلك أن تصل إلى أعلى درجات اليقين، وهي درجة حق اليقين، مثلًا إذا فتحت كتابًا - أيَّ كتاب كان - يتحدّث عن الإمام المنتظر  ، وقرأت المعلومات المتعلقة به   فقد أخذت المعلومات عن طريق القراءة، ثمّ بعد ذلك جئت إلى المسجد وسمعت المحاضرة، وكانت المحاضرة عن نفس المعلومات التي قرأتها، فستزداد درجة يقينك بهذه المعلومات، ولو طُلب منك أيها الإنسان المثقف الذي سمع المعلومات وقرأها واستوعبها أن تشرحها للآخرين، فقمت بشرحها، فإن شرح المعلومات يزيد من يقينك بها.
إذن فالمعلومة الواحدة عندما تقرؤها سيصير عندك يقين، ثمّ تسمعها فيزداد يقينك بها، ثمّ تشرحها فيزداد يقينك بها أكثر، إذ التعامل مع المعلومة تعامل تكاملي يدخل في إطار التكامل اليقيني، وهل يتصور هذا التكامل بالنسبة للمعصوم مثلًا أم لا؟ فالرسول الأعظم   منذ ولادته كان مطّلعًا وعالمًا بجميع معارف القرآن، ولديه علومه، ثمّ نزل عليه جبرائيل   وأسمعه هذه المعارف والعلوم، فصار التعامل مع المعلومة بشكل ثانٍ وهو السماع، أي إنه   كان يعرفها عن طريق الإلهام، ثمّ صار يعرفها عن طريق السماع، ثمّ أُمر بتبليغها وشرحها للآخرين، وقيامه بتبليغها وشرحها للآخرين أوجب وصوله إلى أعلى وأسمى درجات اليقين بهذه المعلومة، إذن التكامل اليقيني هو عبارة عن الانتقال من درجة إلى درجة أخرى من درجات اليقين ولتوضيح الأمر أكثر نأتي إلى السؤال الثاني:
هل أنّ الإمام خاضع للتكامل اليقيني؟
يعني هل الإمام فعلًا ينتقل من درجة من اليقين إلى درجة أخرى أم لا؟ الجواب: إن المعصوم   مع أنه في كل آن يمرُّ عليه هو أكمل الناس وأعلمهم إلاّ أنه مع ذلك يزداد في مقامه الملكوتي القربي من الله عز وجل بما يفاض عليه من العلم اللدني، فإن منازل المقام الشهودي بدرجات اللطف الخفي ودرجات الانكشاف الملكوتي، ففي معتبرة أبي بصير عن الإمام الصادق   قال: ”إنّا لنزاد في الليل والنهار، ولو لم نُزد لنفد ما عندنا“، قال أبو بصير: جُعِلت فداك، من يأتيكم به؟ قال: ”إن منّا من يعاين، وإن منّا لمن يُنقر في قلبه كيت وكيت، ومنّا من يسمع بأذنه وقعًا كوقع السلسلة في الطست“، فقلت له: من الذي يأتيكم بذلك؟ قال: ”خَلق لله أعظم من جبرئيل وميكائيل“.

الإمام يذكر في هذه الرواية أن هناك حالة صعود وحالة تكامل يمرُّ بها الإمام  ، فيجب أن يكون أعلم من غيره، أي أعلم الخلق، وإلاّ لكان تقديمه على الناس من باب تقديم المفضول على الفاضل، وتقديم المفضول على الفاضل قبيح لا يصدر من الله عز وجل، إن الله تعالى عندما جعل الحسن   إمامًا أو الحسين   إمامًا فلأنه هو أعلم الناس، وإلاّ لِمَ يجعله إمامًا، فجعل الشخص إمامًا من دون أن يكون أعلم الناس هو تقديم للمفضول على الفاضل، وتقديم المفضول على الفاضل قبيح.
إذن فالإمام أعلم الناس من أوّل الأمر، والتكامل ليس معناه أن المعلومة كانت مشوّشة ثمّ صارت واضحة فتمام المعلومات منكشفة له تمام الانكشاف، وإنما معناه تكامل المقام القربي من الله عز وجل بواسطة هذه المعلومات.
دعني أوضّح لك الأمر بالمثال أكثر، أنت تقرأ قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا﴾، إن الرسول   كان يتعبّد في غار حراء، وكان على ملّة إبراهيم الخليل؟ فكيف يقول القرآن الكريم: ﴿ما كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإيمانُ﴾، كيف يكون ذلك؟ ما هو الجواب عن هذه الآية؟ هل المراد بها أن الرسول كان جاهلًا وصار عالمًا؟ أم أنه لم يكن مؤمنًا وصار مؤمنًا؟! أم ماذا؟

نقول: لو كان المراد بها ذلك لكان مناقضًا للآيات القرآنية الأخرى، فعندنا آيات تُثبّت أن الرسول كان عالمًا بالقرآن قبل نزوله، ومطّلعًا على جميع معلومات القرآن تفصيلًا قبل نزول القرآن عليه، مثلًا قوله تعالى: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾، أي لا تخبر أحدًا بالقرآن، هذا معناه أنه كان عارفًا بالقرآن، ولو لم يكن عارفًا بالقرآن لما أُمر أن لا يبلّغ القرآن حتّى ينزل عليه الوحي من السماء. أيضًا قوله تعالى في آية أخرى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾، معناها أن الرسول كان مطّلعًا على معلومات القرآن، ولكن تقسيم القرآن إلى سور وإلى آيات أمر نزل به جبرائيل عليه، وإلاّ فجميع معلومات القرآن كانت عند النبي  ، لكن تحوّل هذه المعلومات إلى آيات وإلى سور هو الذي نزل به جبرائيل  ، وهذا هو معنى: ﴿إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ﴾.

إذن، إذا كان الرسول عالمًا بالقرآن من قبل أن ينزل، فما معنى هذه الآية: ﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإيمانُ﴾؟ معنى هذه الآية هو نفي درايته بالكتاب والإيمان على سبيل الاستقلال، فإن الدراية بالاستقلال من خواص البارئ عز وجل وإنما درايته بالاكتساب لا بالاستقلال، وهناك معنى آخر وهو أن النبي   كان على درجة من المقام القربي من الله تعالى فازدادت تلك الدرجة بعد نزول الوحي، وهذا هو ما قلناه إنه   كان على درجة من اليقين، ثمّ بالقرآن وبنزوله تكاملت درجة اليقين، وهذا ما يؤكّده الحديث الوارد عن النبي محمّد  ، هو مما يرويه أهل السُنّة والجماعة أيضًا: ”كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين“ وفي رواية: ”بين الروح والجسد“.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد