علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

تنوع الطرق لأرباب السير والسلوك (2)

 

  الشيخ ناصر مكارم الشيرازي 
2- طريقة المرحوم الملكي التّبريزي
وهو المرحوم "الحاج ميرزا جواد الآقا تبريزي"، وهو من الأساتذة المعروفين في السّير والسّلوك إلى الله، وقد انتهج في رسالته (لقاء الله)، نهجاً يختلف عمّا جاء به في الرّسالة المنسوبة للعلاّمّة بحر العلوم.
فهو يُذكر في البداية، أنّ لقاء الله هو الغاية القصوى، والهدف الأعلى، للسّير والسّلوك، ويستشهد لذلك بآيات متعدّدة من القرآن الكريم، وكذلك بالروايات الكثيرة لُمدّعاه، ويصرّح بأنّ لقاء الله تعالى ليس هو المشاهدة العينية، لأنّ الباري تعالى منزّه عن الكيفيات التي توجب رؤيته بالبصر، ولا هو لقاء النّعيم والثّواب في يوم القيامة، بل هو نوع من "الشّهود"، واللّقاء القلبي والروحي والمشاهدة بالبصيرة.
وبعدها يقترح برنامجاً للسّير في هذا الطريق الطويل، والمحفوف بالمخاطر، ويتلخص في عدّة أمور:
1- العزم والنيّة لسلوك هذا الطريق.
2- التّوبة النّصوح من الأعمال السّالفة، وهي التّوبة التي تنفذ في أعماق الوجدان والوعي، في واقع النفس، وتعمل على تغييره، وغسل آثار الذّنوب وأدران الخطايا من جسمه وورحه.
3- حمل الزّاد للطريق، وذكرَ له عدّة برامج:
أ- صباحاً، المشارطة: (يشرط على نفسه أن لا يمضي إلاّ في طريق الحق)، وفي النّهار المراقبة: (الانتباه لئلاّ يحيد عن الطريق)، ومساءاً المحاسبة: (لنفسه على ما فعله في النّهار).
ب- التّوجه للأوراد والأذكار، ووظائف اليقظة والمنام.
ج- التّوجه لصلاة اللّيل، والخَلوة بالله تعالى، وإحياء الليل وترويض النفس في حالات النوم والأكل، بحيث لا يتجاوز عن الحدّ الضروري.
4- الاستفادة من سوط السّلوك، وهو عبارة عن مُؤاخذة النّفس وتوبيخها، لتوجُّهِها للدنيا وتقصيرها في طلب الحق، وعدم وفائها، وإطاعة الشّيطان في معصية الله تعالى، ويستغفر الله على كلّ ذلك ويعزم على السّعي في طريق الإخلاص والإيمان والصلاح.
5- عند التّحول، وفي هذه المرحلة، وقبل كلّ شيء، يجب أن يفكّر في الموت، ليميت حبّ الدنيا في قلبه ويصلح الصّفات القبيحة عنده، وهو دواءٌ نافعٌ في هذا المجال، (وبعدها يفكر في عظمة الله وأسمائه وصفاته، ويذكر أولياء الحق، وليسعى بأن يُشابِههم في صفاتهم).
6- عند القرب من منزل المقصود، يشير إلى أنّ الإنسان لديه ثلاثة عوالم:
1- عالم الحسّ والطّبيعة.
2- عالم الخيال والمثال.
3- عالم العقل والحقيقة.
فعالم الحسّ والطّبيعة كلّه ظلمات، وإذا لم يعبره فلن يستطيع الوصول لعالم المثال، وهو العالم الذي تكون فيه الحقائق لها صورٌ عاريةٌ عن المادّة.
وما دام يراوح في عالم المثال، فلن يستطيع الوصول إلى عالم العقل، الذي هو عالم الحقيقة والأصل للنفس الإنسانية، الذي لا صورة ولا مادة فيه، فإذا وصل لعالم العقل، وأدرك نفسه خاليةٌ عن المادة والصّورة، فسيصل إلى معرفة الباري تعالى، ويكون مصداقاً لقوله: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ3"4.


3- طريقةٌ أخرى
في رسالة "لقاء الله" للعالم والمحقق الكبير، الآقا المصطفوي، أشار إلى برنامج آخر للسّير والسّلوك، في رسالته الجامعة والغنية، والمعتمدة على الآيات والأخبار، حيث أشار أولاً إلى الآيات المتعلّقة بلقاء الله، وبعدها شرع في تفسير معنى اللّقاء; أنّ المراد منه اللّقاء المعنوي والرّوحي، وأضاف أنّ الإنسان ولأجل وصوله للقاء الله تعالى في هذا السير المعنوي، عليه أن يكسر حدود المادة والمكان والزّمان، وكذلك الحدود الذّاتية لكلّ المُمكنات، ويفنى في عالم اللاّهوت، ويكون المخاطب لقوله تعالى: يا أَيَّتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ ارجَعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرضِيَّةً فادخُلِي فِي عِبادِي وادخُلي جَنَّتي(الفجر:30).
وأقترح خمسة مراحل للوصول إلى المقصود الأكبر
المرحلة الاُولى: التّحرك على مستوى تكميل وتقوية الإعتقادات، والتّوجه الخاص لأصول الدّين.
المرحلة الثانية: التّوبة من الذنوب، والتّحرك من هذا الموقع للإتيان بالأعمال الصّالحة وأداء الواجبات.
المرحلة الثالثة: السّعي الجاد لتطهير النّفس من الرذائل، وتحليتها بالفضائل الأخلاقية.
المرحلة الرابعة: محو الأنانيّة، والفناء في مُقابل عظمة الحق.
وفي هذه المرحلة التي ينقطع الإنسان فيها عن التّعلقات المادية، من الأهل والأموال والأولاد واللّذات، تكون الشّهوات الماديّة والخياليّة قد تغيّرت وتبدّلت، إلى تعلّق وارتباط روحي ومعنوي، والذي يبقى هو التّعلق بالذّات والنّفس، وهذا التعلّق متجذّر وقويّ لدرجة كبيرة جدّاً، ولشدّة ظهوره: خفي، وتبقى ملاحظةٌ واحدةٌ وهي، أنّ هدف السّالك في جميع هذه المراحل هو الوصول إلى لقاء الله، وفي الواقع والباطن أنّ كلّ عمل يكون قد أدّاه هو له ولنفسه.
وبعبارة أخرى: كان يُريد الوصول إلى المقامات العليا، والقُرب من الله تعالى، والحصول على الكمالات المعنوية والروحية، فكلّ ذلك كان بدافع النّفس والذّات، وليس لِلهدف الأصلي، ولذلك فهو عند وصوله لمثل هذا المقام يفرح غاية الفرح، ولكن إذا وصل غيره إلى هذا المقام، فسوف لن يكون فرحاً لهذا الحد، وهنا يجب أن تُحذف "الأنا" وتُنسى، ويكون المحبوب للسّالك هو تجلّي الله سبحانه، لا من خلال حبّ الذّات، أو بعبارة أوضح، يجب أن تُمحى "الأنا"، وهي الحِجاب الأكبر والمانعُ الأقوى، وآخر الحُجب للوصول إلى الله تعالى ولقائه.


ولإزالة هذا المانع، توجد عدّة طرق
1- طريق التّوجه القلبي لله تعالى، والتّوحيد الذّاتي والصّفاتي والأفعالي، ومنه يفهم أنّ غيره لا شيء في مُقابله.
2- التّفكر والإستدلال للوقوف بوجه "الأنانية" وحجاب النفس، بمعنى أن يرى أنّ الله تعالى غير محدود بحدٍّ، وهو الأزلي والحقّ المطلق، والنفس هي الموجود المحدود في كلّ شيء، وفي منتهى الضّعف والعجز والفقر والحاجة إلى الله تعالى، ومن دون المدد الإلهي فإنّها لا تستطيع الصّمود ولا لِلِحظة واحدة.
3- المعالجة بالأضداد، بمعنى أنّه كلّما أحسّ بوجود "الأنا" في وعيه، يعالج هذا الموقف بالتّوجه لله والصّالحين من عباده، لكي يعيش في الحضور الدّائم مع الباري تعالى.
المرحلة الخامسة: في هذه المرحلة يصبح السّالك إنساناً ملكوتياً، ويدخل في عالم الجبروت!. والقصد من الدخول في مرحلة الجبروت، هو أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة من الصّفاء والإخلاص، يكون فيها مندّكاً في ذاتِ الله تعالى، وله نفوذٌ وسلطةٌ على الأمور، فيتحرك في أداء وظائفه الإلهيّة، وإرشاد الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من موقع المسؤولية والإنضباط في خط الرّسالة، ويكون على بصيرة كاملة من أمره.
أو الأحرى، ينسى نفسه، ويكون على علم بكلّ المسائل والوظائف والأحكام والآداب الشرعية، وطرق السّير والسّلوك، ويكون تشخيصه لِلأمراض والأدوية دقيق جدّاً، كالطّبيب الحاذق الذي يعرف الدّاء والدّواء ويشخصه جيّداً5.
والجدير بالذّكر أنّه قد استدلّ لكلّ هذه المطالب في كتابه، بالآيات والرّوايات الإسلاميّة، كشاهد على مُدّعاه.

خلاصة ما تقدم من مذاهب السّير والسّلوك
يُستفاد ممّا تقدّم من تعليمات أرباب هذا الفن، والطريق: (الذين مشوا في نهج الإسلام الأصيل وطريق أهل البيت عليهم السلام لا المتصوفة)، أصولٌ مشتركةٌ في عمليّةِ السّيرِ والسّلوك إلى الله وهي:
1- أنّ الهدف الأصلي، هو لقاء الله وشهود ذاته المقدسة، بالبصيرة والحُضور الروحي المعنوي عنده.
2- للوصول لهذا الهدف، ينبغي التّحرك أولاً من موقع التوبة من جميع الذنوب والرذائل الأخلاقية، والتّحلي بالفضائل.
3- في هذا الطريق يجب أن لا ينسى الآداب الأربعة: المشارطة، والمراقبة، والمحاسبة، والمعاقبة، يعني يُشترط في الصّباح على نفسه، أن لا يذنب ولا يخالف رضا الباري تعالى، ويراقب نفسه في طول النّهار وفي اللّيل وعند النوم، يجلس للمحاسبة، وإذا ما صدرت منه مخالفةٌ يعاقب نفسه بتركه لأنواع اللّذائذ.
4- التّصدي لهوى النفس من موقع المخالفة، لأنّ الهوى هو من أكبر السّدود في هذا الطّريق، ومخالفته هي من أوجب الواجبات.
5- التّوجه لأذكار وأوراد وردت في الشّرع المقدس، وأمثال: "لا حَولَ وَلا قُوَّةَ بِالله"، وذكر "لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبحانَكَ إِنَّي كُنتُ مَن الظَّالِمِينَ"، وذكر "يا الله" و"يا حَيُّ" "يا قَيُّوم" وهي الزاد في هذا الطّريق والسبب للقوّة.
6- التوجه القلبي لحقيقة التّوحيد للذات والصّفات والأفعال لله تعالى، والغرق في صفات كماله وجماله، وهي زاد آخر لهذا الطريق الوعر المليء بالمطبّات والتّحديات الصعبة.
7- كسر أكبر الأصنام، وهو صنم الأنانيّة والّذات الفرديّة، وهو من أهم الشّروط للوصول للمقصود.
8- وقد اشترط البعض الإستعانة بالأستاذ، والسّير في هذا الطريق تحت إشرافه، فيكون كالطبيب الذي يعمل على معالجته، والبعض لا يعتمدون على الأستاذ، وحصل في كثير من الموارد، وللأسف الشديد، الوقوع في حبائل الشيطان، وذلك بسبب الاعتماد على الأستاذ، حيث يعتبرونه كالملاك، فيذهب دينهم وإيمانهم وأخلاقهم إدراج الرّياح!.
ويرى البعض الآخر، أنّ وظيفة الإرشاد والسير على هدي الأنبياء والأولياء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي آخر المراحل، ولكن كثيراً منهم لم يذكروا شيئاً، وتركوا السّالك بحاله.
والغرض من الإتيان بهذا البحث، في المباحث الأخلاقية، هو
أولاً: سرد عصارة من التّفكرات التي لها علاقة بالمباحث الأخلاقية، حتى يتنور القارئ ويتحرك في طريق التّهذيب وإصلاح الذّات.
ثانياً: نحذّر طلاب الحقيقة، أنّ الحدّ بين الحقّ والباطل ضيئل جدّاً، فكثيرٌ من الشّباب من ذوي القلوب النّقية، كان هدفهم الوصول إلى الحقّ والعين الصّافية، ولكنّهم انجرفوا في طريق الضّلالة، وتركوا طريق العقل والشّرع، ولذلك تاهوا في وادي الحيرة، وغرقوا في مستنقع الخطيئة، ولم يسلموا من مخالب الذّئاب الضّارية، الذين يرتدون مسوح الزّهد والقداسة، فأضاعوا وفقدوا كلّ ما لديهم.
ــــــــــــ
3- بحار الأنوار، ج2، ص32.
4- للتفصيل يرجى الرجوع إلى رسالة لقاء الله المرحوم التبريزي قدس سره.
5- للإطّلاع، يرجى الرجوع إلى كتاب: "لقاء الله"، للعلاّمة الكبير المُصطفوي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد