علمٌ وفكر

مفهوم الفطرة، المعاني والمصاديق (2)

 

الإمام الخميني "قدس سره"
الدِّين من الفطرة
اِعلم أنّ المفسِّرين، من العامّة والخاصّة، فسّروا، كلٌّ على طريقته، كيفيّة كَوْن الدِّين أو التّوحيد من الفطرة. ولكنّنا في هذه الوريقات لا نَجري مَجراهُم وإنّما نستفيد في هذا المقام من آراء الشّيخ العارف الكامل (الشّاه آبادي) الّذي هو نسيجٌ وحدَه في هذا الميدان. فقد أشار إلى أنّ بعضها قد وَرَد بصورة الإشارة والرّمز في بعض كُتب المحقّقين من أهل المعارف، وبعضها الآخر ممّا خطر في فكري القاصر، (كما يقول).
إذاً، لا بُدَّ أن نعرف أنّ من أنواع الفطرة الإلهيّة ما يكون على «أصل وجود المبدأ»تعالى وتقدَّس، ومنها الفطرة على «التّوحيد»، وأخرى على «استِجماع ذاتِ الله المقدّسة لجميعِ الكمالات»، وأخرى على «المعاد ويوم القيامة»، وأخرى على «النّبوّة»، و«وجود الملائكة والرّوحانيّين، وإنزال الكُتب، وإعلان طريق الهداية». وهذه الأمور بعضُها من الفطرة، وبعضُها من لوازم الفطرة. فالإيمانُ بالله تعالى وبملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه وبيومِ القيامة، هو الدِّينُ القيِّمُ المُحكَمُ والمستقيمُ والحقّ. ولَسوف نُشير إلى الأوّل منها طالبينَ التّوفيق من الحقّ تعالى.


وجودُ الله تعالى، من الأمور الفطريّة
أصلُ وجود المَبدأ المُتعال جَلّ وعلا من الأمور الفطريّة، وهذا يتّضح بعد التّنبُّه إلى أنّ «عِشق الكمال والتَّوق إليه»، هو من الأمور الفطريّة الّتي جُبلت عليها الخلائقُ بأكملها، بحيث إنّك لنْ  تَجد فرداً واحداً في كلّ المجموعة البشريّة يخالف ذلك، ولن تستطيع العادات والأخلاق والمذاهب والمسالك وغيرها أن تبدّلَها ولا أن تُحدِثَ فيها خللاً، فأنتَ إنْ تأمّلتَ في جميع الأدوار الّتي مرَّ بها النّاس، واستَنْطَقْتَ أيَّ فردٍ أو طائفةٍ أو مِلّةٍ، تجد هذا العشق والحبّ قد جُبل في طينتِهم جميعاً، وتَجد قلوبَهم متوجّهةً نحو الكمال. بل إنّ ما يُوجّه الإنسان ويدفعه في سَكَنَاته وحركاته، وكلّ العناء الّذي يتحمّله الفرد والجهود المُضنية الّتي يَبذلها في مجال عمله وتخصّصه، إنّما هو نابعٌ من حبّ الكمال، على الرّغم من وجود منتهى الخلاف بين النّاس في ما يَرَوْنَه من الكمال، وبأيّ شيءٍ يتحقّق الكمال ويشاهَد الحبيب والمعشوق.
فكلٌّ يَجدُ معشوقَه في شيء، ظانّاً أنّ ذلك هو الكمالُ وكعبةُ الآمال، فيَتوجّه إليه، ويَتفانى في سبيله تَفانيَ العاشق. إنّ أهلَ الدُّنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثّروة، ويجدون معشوقهم فيها، فيبذلون غايةَ الجهد في سبيل تحصيلها. وهكذا حالُ أهل العلوم والصّنايع، كلٌّ يَرى الكمال في شيءٍ ويَعتقد أنّه معشوقه، بينما يرى أهلُ الآخرة والذِّكر والفِكر غيرَ ذلك...
وعليه، فجميعُهم يَسعون نحو الكمال. فإذا ما تَصوَّروه في شيءٍ موجودٍ أو موهومٍ تعلّقوا به وعَشقوه. ولكن لا بُدَّ أن نعرف أنّ حبّ هؤلاء وعشقَهم ليس في الحقيقة لهذاالّذي ظنّوه بأنّه معشوقُهم، وأنَّ ما توهَّموه وتخيَّلوه ليس كعبةَ آمالِهم. إذ لو أنّ كلَّ واحدٍ منهم رجع إلى فطرته، لَوَجَد أنّ قلبه في الوقت الّذي يُظهر العِشقَ لشيءٍ ما، فإنّه يتحوّل عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجدَ الثّاني أكمل من الأوّل، ثمّ إذا عَثَر على أكمل من الثّاني، تركه وانتقل بِحبِّه إلى الأكمل منه، بل إنَّ نيران عشقه تزداد اشتعالاً حتّى لا يعود قلبُه يُلقي برِحَالِه في أيّة درجةٍ من الدّرجات، ولا يَرضى بأيّ حدٍّ من الحدود.


مثلاً، إذا كنتَ تحبّ بهاء الطّلّة ونضارة الوجوه، وعثرْتَ على ذلك عند مَن تراه كذلك، توجُّه قلبُك نحوه. فإذا لاح لك جمالٌ أجمل، لا شكّ في أنّك سوف تتوجّه إلى الجميل الأجمل، أو أنّك على الأقلّ تَطلب الاثنين معاً، ومع ذلك لا تَخمد نارُ الاشتياقِ عندك، ولسانُ حالِ فطرتك يقول: كيف السَّبيل إليهما معاً؟ ولكنّ الواقع هو أنّك تطلب كلّ جميلٍ تراه أجمل، بل قد تزداد اشتياقاً بالتّخيّل، فقد تَتخيَّل أنّ هناك جميلاً أجمل من كلِّ ما تراه بعينك، في مكانٍ ما، فيُحلِّق قلبُك طائراً إلى بلد الحبيب، ولسانُ حالِك يقول: أنا بين الجَمع وقلبي في مكانٍ آخر. وقد تعشق ما تتمنّى. فأنت إنْ سمعتَ بأوصاف الجنّة وما فيها من الوجوه السّاحرة -حتّى وإنْ لم تكُن تؤمن بالجنّة لا سمح الله- قالت فطرتُك: ليتَ هذه الجنّة موجودة، وليت نعيمَها من نصيبي.
وهكذا الّذين يرون الكمال في السّلطان والنّفوذ واتّساع المُلك، يتّجه حبُّهم واشتياقُهم إلى ذلك. فهم إذا بَسَطُوا سُلطانَهم على دولةٍ واحدة، توجَّهت أنظارُهم إلى أخرى، فإذا دخلت تلك الدّولة أيضاً تحت سيطرتهم، تطلّعت أعيُنُهم إلى أكثر من ذلك، بل تزداد نار تطلُّعاتهم لهيباً، وإذا بَسَطوا سلطانهم على الأرض كلّها، وتخيّلوا إمكانَ بسطِ سلطتهم على الكواكب الأُخَر، تمنّت قلوبُهم لو كان بالإمكان أنْ يطيروا إلى تلك العوالم كي يُخضعوها لِسيطرتِهم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد