السيد عباس نورالدين
بُني الفكر الإسلامي منذ بداية تشكّله على أساس أنّ نظام العالم هو النظام الأحسن، وعلى قول بعض العارفين بأنّه النظام الأجمل. ولكن حين ننظر إلى هذا العالم نرى أنّ فيه الكثير من الاختلال الذي لا يجعل العيش فيه سهلًا ويسيرًا في كلّ الأحوال والظروف، فقد يشتدّ البرد أحيانًا والحرّ أحيانًا أخرى؛ وهناك الكوارث كالفيضانات والأعاصير والزلازل، فضلًا عن الأمراض والحشرات المضرة والحيوانات المؤذية التي تنشأ من الاختلال البيئي. إذًا، هناك العديد من الحالات التي لا يمكن مع وجودها وصف العيش على هذه الأرض على أنّه الأحسن.
نعم إنّ العيش على الأرض مقارنةً بالعيش على القمر والمريخ والكواكب الأخرى هو أفضل بكثير وأكثر يسرًا، لتوفّر الإمكانات الكثيرة فيه، فلا مجال للمقارنة ها هنا؛ ولكن أن يُقال أنّه لا يمكن أن يكون هناك نظام أحسن أو أجمل هو في الواقع تعمية على بعض البديهيات التي يمكن للإنسان إدراكها بعقله ووجدانه.
في الواقع إنّ دفاع المتكلمين بوجهٍ خاص، وبعض الفلاسفة وأهل العرفان نحوٍ ما، عن هذا النظام يرجع إلى مجموعة من المقدّمات التي حين نتأمل فيها، نكتشف وجود بعض الخلل الذي ينبغي إصلاحه.
فهؤلاء يقولون إنّ الله هو الجميل وهو الحكم العدل وهو العالم والقدير، ومن يتصف بهذه الصفات المطلقة، لا يصدر منه أي عبث أو خلل أو نقص فهو قد أتقن كل شيء خلقه، وأحسن كل شيء صنعه، ما يعني أنّ هذا العالم لا بدّ أن يكون كذلك. لقد انتقل هؤلاء ببرهان اللم من العلّة إلى المعلول وأثبتوا أنّه طالما أنّ الخالق يتّصف بهذه الصفات على نحو مطلق ـ فهو ليس فيه عجز أو جهل أو أي ضعف ـ فلا بد لمعلوله أو مخلوقاته، الذي هو هذا العالم بحسب الفرض، أن يكون كذلك أيضًا وأن لا يتصف بأي نقص.
هكذا بُنيت قضية العالم منذ أن تشكل هذا الفكر ـ وربما نجد مثل هذه الأفكار أيضًا في اللاهوت المسيحي واليهودي ـ إلّا أنّها اصطدمت مع المشاهدات والتجارب التي يعيشها البشر.
إنّ تأملًا بسيطًا في أوضاعنا البيئية الجغرافية الطبيعية الصحية، والإنجازات المهمة التي تحصل على المستوى الطبيعي، يؤكّد على إمكانية تحسين الكثير من الواقع الطبيعي وغير الطبيعي في عالمنا.
إنّ هذا الاختلاف بين أمكنة وأخرى وبين بيئات وأخرى، يدل على أنّ المسألة ليست كما يُقال بأنّ هذا هو النظام الأحسن. فالنظام الأحسن لا ينبغي أن يكون فيه أي شيء مؤذٍ أو مضر أو مزعج أو يصعّب على الإنسان حياته، خاصة أنّنا نستطيع أن نتصور في عقولنا نظامًا أحسن. نحن نستطيع أن نتخيل مثلًا وجود عالم ليس فيه مرتفعات شاهقة بحيث إذا سقط عنها الإنسان حطّم نفسه؛ كما نستطيع أن نتصور عالمًا ليس فيه صحاري بهذه الحدة والقسوة، أو مناطق شديدة البرودة كالمناطق القطبية الثلجيّة، أو بحار صعبة متموجة، أو مياه آسنة كما هو حاصل في الكثير من مناطق العالم. نعم، نحن نستطيع أن نتصور عالمًا ليس فيه كل هذه المنغصات والمشاكل.
ولا يوجد من يقول إنّه حتى نحصل على هذا الاعتدال في المناخ يجب أن نقاسي هذه المقاساة. يثبت لدينا أنّه يمكن للكثير من أحوال الطبيعة السلبية أن تتحسّن وأن تصبح أفضل إذا قمنا على سبيل المثال، بتشجير معظم أراضي العالم، فلو فعلنا فإنّ مناخ الأرض سيعتدل اعتدالًا ملفتًا جدًّا؛ فضلًا عن أنّ الحشرات المزعجة والحيوانات الضارة والمؤذية والكثير من الأوبئة في العالم ستختفي.
إذًا يوجد إمكانية لأن تكون هذه الأرض أجمل والحياة عليها أكثر يسرًا وجمالًا، فهذا أمر ممكن التصوّر، ولا يوجد نظرية تقول بعدم إمكانية ذلك حتى نقول إنّنا نعيش في النظام الأحسن.
بناءً عليه أين تكمن المشكلة في هذا الدليل؟
إنّ المشكلة في الواقع هي مشكلة كبيرة وكانت سببًا للكثير من المشاكل الأخرى. فالمشكلة تكمن في أنّنا غفلنا عن أنّ هذا العالم، أي عن أنّ هذه الكرة الأرضية وبيئتها، ليست هي النظام بل هي جزء من النظام، وبالتالي علينا أن ننظر إلى الصورة الكلية، ونسأل: هذا العالم الذي صدر من الله عز وجل في الحقيقة ما هو؟
إذا تأمّلنا قليلاً نعلم أنّ المقصود من الخلق والفعل الإلهي الذي صدر من الله سبحانه وتعالى هو في الواقع الذي يندرج تحت عنوان "وما أمرنا إلا واحدة". فالوضع النهائي، الذي ستصل إليه البشرية وهذه الأرض وكل العوالم، والذي يمكن أن نعبر عنه بجنة الخلد، هو المقصود من عملية الخلق. فجنّة الخلد هي الغاية وهي المبتغى وهي النظام الأجمل والأحسن. ومقارنة بسيطة بين عالمنا هذا والعالم النهائي ستؤكد أنّ النظام الأجمل والأحسن هو ذلك النظام وليس هذا النظام.
إنّ إصرارنا على الدفاع عن هذا النظام لأجل الدفاع عن الله سبحانه وتعالى، وإن انطلق من نوايا سليمة تمامًا، جعلنا نغفل عن القضية الجوهرية في كل هذا الوجود، وهي أنّ عملية صناعة النظام الأحسن والأجمل الذي يريده الله سبحانه وتعالى، قد أوكلت إلى الإنسان؛ أي أنّ الله عزّ وجل شاء أن يكون النظام الأجمل والأحسن، ظاهرًا ومتحققًا ومتجليًا على يد الإنسان، الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يباهي به ملائكته وأن يثبت لهم عظيم قدرته وأنّ هذا الإنسان هو الذي يستحق هذه الخلافة الإلهية.
فالنظام الأحسن الأجمل هو ذاك النظام النهائي الذي سيتحقق بفضل سعي الإنسان لتبديل هذا النظام الأقل، الذي يكمن جماله وحسنه في إمكانية تحوّله وتبدله إلى ذلك الوضع النهائي، على يد الإنسان وبفعل صناعته.
إنّ عظمة الأرض وعظمة الحياة عليها تكمن في أنّها قابلة للتحول والتبدل إلى النظام الأحسن الأجمل، والذي سيتم يومًا ما حتمًا على يد هذا الإنسان الذي هو خليفة الله أو لنقل على يد نوع الإنسان أي البشرية بقيادة ولي الله كما سيتبين لنا.
لذلك، نقول إنّ هذا النظام ليس هو النظام الأحسن والأجمل ولكن هو حسن وجميل باعتبار قابليته وباعتبار ما فيه من إمكانيات واستعدادات ليكون ذلك النظام الأحسن. هناك علاقة علية بين هذا العالم والعالم النهائي، ومظهر العلة الحقيقية أي مظهر الفعل الإلهي الأحسن الأجمل سيكون هذا الإنسان، خليفة الله على الأرض. هناك الكثير من الخلل في هذا العالم الأرضي والكثير من النواقص والمشاكل، وسبب ذلك يرجع إلى الإنسان نفسه أيضًا، بمعنى أنّه {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}، فهذه آية واضحة تبين أنّ هذا البر والبحر، اللذين هما مظهر للعالم الأرضي، إنّما يعيشان نوعًا من الفساد والاختلال بسبب ما يفعله الناس، وكان هذا النظام هكذا لأجل أن يعكس للإنسان سوء فعله وأخطائه، فيدفع الثمن وبذلك يستيقظ وينهض للإصلاح ويكون ذلك سببًا لتحقق النظام الأحسن الأجمل إن شاء الله.
وأعتقد أن جزءًا مهمًّا من خلوّ الرؤية الإسلامية في الفكر الإسلامي، أي في تجربة المفكرين المسلمين، من قضية البيئة وإصلاح الأرض والحياة الاجتماعية وآثارها يرجع بالدرجة الأولى إلى إصرارهم على أنّ هذا الوضع هو أفضل ما يكون. وحين تنقطع الصلة بين العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي يصعب على الناس أن يدركوا حجم الكارثة، التي يتسبب بها الوضع الاجتماعي السلبي، والذي يعود بالدرجة الأولى إلى حكومة الطواغيت وحكومة الأشرار والمستبدين. وهذا ما أدى إلى وجود حالات من الفكر عند المسلمين ترتبط بالجبرية والتقاعس والتواكل وأمثال ذلك من المشاكل التي عانت منها الأمة الإسلامية وما زالت إلى يومنا هذا. لقد تصوروا أنّه لن يكون أفضل ممّا كان، وجعلوا ذلك قاعدة كلية شاملة لكلّ الأوضاع والأحوال، في حين إنّ أفضل ما يكون وأجمل ما يكون إنّما يتحقق في الآخرة، والذي بدوره يتحقق بفضل سعي الإنسان لتبديل المجتمعات البشرية لتكون صالحة ومصلحة ومغيرة ومبدلة لهذه الأرض، حين تشرق بنور ربها إن شاء الله.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم