علمٌ وفكر

المؤمنون بالكمال المطلق قلّة

 

الإمام الخميني "قدس سره"
واعلم أنّ هناك تساهلاً في التعبيرات الواردة فيما يخصّ المتقابلات[1]. والموضوع أعلاه، رغم موافقته للبرهان[2] المتين وللآراء العرفانية ورغم ما ورد في القرآن الكريم من إشارات إليه، إلا أنّ التصديق[3] والإيمان به في غاية الصعوبة، ومنكريه في غاية الكثرة، والمؤمنين به قلّة نادرة، فحتى أولئك الذين يعتقدون بثبوت هذه الحقيقة عن طريق البرهان لا يؤمن بها منهم إلا قلّة قليلة، فالإيمان بأمثال هذه الحقائق لا يُحرَز إلا بالمجاهدة والتفكُّر والتلقين.
وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا الادّعاء (بأنّ بعض الأمور البرهانية يمكن أن لا تكون موضعاً للتصديق والإيمان) عقدة يصعب الاقتناع بها، بل لعلّ البعض قد يقطع بأنّه أمر لا أساس له. ولكن ينبغي أن تعلم بأنّ هذا الأمر أمر وجداني وقد وردت إشارات إليه في القرآن الكريم، كالآيات الكريمة من سورة التكاثر[4].
ولإثباته عن طريق الوجدان، نورد المثال التالي: أنت تعلم بأنّ الموتى لا تصدر عنهم أيّة حركة وأنّهم لا يستطيعون إلحاق الأذى بك، وأنّ الموتى لا يعادلون ذبابة حيّة واحدة من حيث الأثر والفعالية، كما تُدرك أنّهم لا يمكن أن يعودوا إلى الحياة في هذا العالم بعد موتهم وقبل يوم النشور، إلّا أنّك قد لا تمتلك القدرة على النوم وحيداً براحة في المقابر. هذا ليس إلّا لأنّ قلبك لم يُصدّق بما عندك من علم، وأنّ الإيمان بهذا الأمر لم يتحصّل لديك، في حين أنّ أولئك الذين يقومون بتغسيل وتكفين الموتى يحصل لهم الإيمان واليقين بهذا الأمر نتيجة تكرار العمل، فهم يستطيعون الخلوة مع الموتى براحة بال واطمئنان. كذلك فإنّ الفلاسفة الذين أثبتوا بالبراهين العقلية أنّ الحقّ حاضر في كلّ مكان، دون أن يصل قلوبهم ما أثبتته عقولهم بالبرهان، ولم تؤمن به قلوبهم، فإنّ أدب الحضور لن يتحقّق لديهم، في حين أنّ أولئك الذين أيقنوا بحضور الحقّ بقلوبهم، وآمنت قلوبهم بذلك فإنّهم- رغم أن لا علاقة لهم بالبراهين-، فإنّهم يتحلّون بأدب الحضور[5] ويجتنبون كلّ ما ينافي حضور المولى.


فالعلوم المتعارفة إذن - وإن كانت الفلسفة وعلم التوحيد- لكنّها تُعدّ في حدّ ذاتها حجباً، وهي تزيد الحجاب غلظة وسمكاً كلّما زادت، كذلك فإنّنا نعلم جميعاً ونرى بأنّ دعوة الأنبياء عليهم السلام والأولياء الخُلّص لله ليست من سنخ الفلسفة والبرهان المتعارف، بل إنّهم يهتمّون بأرواح وقلوب الناس، ويسعون لإيصال نتائج البراهين إلى قلوب العباد، ويبذلون الجهد لهدايتهم من داخل الروح والقلب.
وإن شئت فقل: إنّ الفلاسفة وأهل البراهين يزيدون الحجب، في حين أنّ الأنبياء عليهم السلام وأصحاب القلوب يسعون في رفعها، لذا ترى أن من تربّوا على أيدي الأنبياء مؤمنون وعاشقون، في حين أنّ طلّاب علماء الفلسفة أصحاب برهان وقيل وقال لا شأن لهم بالقلب والروح.
وليس معنى ما أوردته أن تجتنب الفلسفة والعلوم البرهانية والعقلية، أو أن تشيح بوجهك عن العلوم الاستدلالية، فهذا خيانة للعقل والاستدلال والفلسفة. بل أقصد أنّ الفلسفة والاستدلال وسيلة للوصول إلى الهدف الأصلي، فلا ينبغي والحال كذلك أن تحجبك عن المقصد والمقصود والمحبوب.
أو فقل: إنّ العلوم معبر نحو الهدف وليست الهدف بحدّ ذاتها، فكما أنّ الدنيا مزرعة الآخرة[6]، كذا فإنّ العلوم المتعارفة مزرعة للوصول إلى المقصود، تماماً كما أنّ العبادات معبر نحو الله جلّ وعلا، فالصلاة- وهي أسمى العبادات- معراج المؤمن[7]، وجميع هذه الأمور منه وإليه تعالى.
وإن شئت فقل: إنّ المعروف بجميع أنواعه درجات في سلّم الوصول إلى الله تعالى، وجميع المنكرات موانع في طريق الوصول، والعالم بأسره يبحث عنه تعالى، ويحوم كالفراش باحثاً عن جماله الجميل.
ويا ليتنا نَصْحُوا من نومتنا ونلج أوّل منزل وهو اليقظة! ولعلّه جلَّ وعلا يأخذ بأيدينا بألطافه وعناياته الخفيّة فيُرشدنا إلى جماله الجميل.
ويا ليت فرس النفس الجموح تهدأ قليلاً فتنزل عن مقام الإنكار، ويا ليتنا نُلقي هذا العبء الثقيل من على كواهلنا إلى الأرض فننطلق مخفّين نحوه تعالى!
ويا ليتنا نحترق كالفراش في شمع جماله دون أن نتكلّم!
ويا ليتنا نخطو خطوة واحدة بقدم الفطرة ولا نبتعد عن طريقها بهذا القدر، و... و...، والآف التمنيات والأمنيات الأخرى التي تزدحم في ذاكرتي وأنا على شفير الموت في شيخوختي هذه، ولكن دون أن تصل يدي إلى مكان!
 ــــــــــــــ
]1[أصحاب الطرائق: أصحاب الطرق الصوفية التي اشتهرت بالزهد والتنسُّك.
[2]أصول الكافي، ج2، ص163.
[3]سورة سبأ، الآية:46.
[4]خالصة لوجه لله.
[5]سورة الحشر، الآية:18.
[6]إيمان العامة هو الإيمان الظاهري وهو إيمان المبتدئين في تديُّنهم والتزامهم.
[7]إشارة إلى تجسُّم الأعمال في النشأة الآخرة حيث ورد في العديد من الآيات والروايات أنّ للأعمال صوراً غيبية تلحق صاحبها بعد الموت وتلازمه في عالمه الجديد منها قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ (سورة الكهف، الآية: 49). ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ (سورة النجم، الآيتان: 39-40). وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ كَانَتِ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ وَالْبِرُّ مُطِلٌّ عَلَيْهِ وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيَةً فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَه قالَ الصَّبْرُ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبِرِّ دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَأَنَا دُونَهُ"(الكافي، ج2، ص90). وعن الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ مُثِّلَ لَهُ شَخْصٌ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا كُنَّا ثَلَاثَةً كَانَ رِزْقُكَ فَانْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ أَجَلِكَ وَكَانَ أَهْلُكَ فَخَلَّفُوكَ وَانْصَرَفُوا عَنْكَ وَكُنْتُ عَمَلَكَ فَبَقِيتُ مَعَكَ أَمَا إِنِّي كُنْتُ أَهْوَنَ الثَّلَاثَةِ عَلَيْكَ" (الكافي، ج3، ص240).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد