علمٌ وفكر

استعراض أدلة التوحيد

 

الشيخ محمد جواد مغنية
ترتكز الأديان السماويّة كلّها على أصول ثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والبعث، وما من نبي من آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله) إلا وتقوم دعوته على هذه الأصول، وما عداها يتفرع عنها، فعدالة الله وقدرته وحكمته فرع عن التوحيد، والإمامة والقرآن فرع عن النبوة، والحساب والجنة والنار فرع عن البعث.
وابتدأ القرآن الكريم بالأصل الأول، وأرشد إلى دلائله، لأنه الأساس، وخاطب الناس بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] إلخ.. وبديهة أن عبادته تستدعي معرفته أوّلاً بطريق القطع والجزم، لا بطريق التخمين والظنّ، لأن الظن لا يغني عن الحقّ شيئاً بشهادة القرآن نفسه. فما هو الطريق الذي يؤدّي قطعاً إلى معرفة الله جلّ وعلا؟
لقد اختلف العلماء في نوعية هذا الطريق، وقرّره كلّ بما رآه صواباً.. فمنهم من اعتمد على الدليل الكوني، وأورده على هذه الصورة: إن الطبيعة وحوادثها المتكررة المتجددة تتطلب وجود علة لها، ولا يصح أن تكون العلة هي الطبيعة نفسها، وإلا لزم أن يكون الشيء علة ومعلولاً في آن واحد، وهذا هو الدور الباطل الذي أوضحناه في الفقرة السابقة {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ }[البقرة: 4]، وإن كانت العلة خارجة عن الطبيعة، نقلنا إليها الكلام وسألنا: هل هي نتيجة لعلة سابقة، أو أنها وجدت لذاتها من غير علة، وعلى الأول، يأتي الكلام والسؤال عن كل علة سابقة، وهكذا دواليك.. وهذا هو التّسلسل المحال، فتعين الثّاني، أي وجود علة بذاتها، وإليها تنتهي جميع العلل، ولا تنتهي هي إلى غيرها، وهي كلمة الله، وقوله للشّيء كن فيكون.


- ملحوظة - هذا الدّليل يقوم على التسليم بنظريّة العليّة، وهي أن كل أثر يستلزم مؤثراً، وكلّ معلول لا بدّ له من علة، تماماً كالعلم يستدعي وجود العالم، والكتابة وجود الكاتب. ولكي تتّضح لديك فكرة التسلسل وبطلانها، ووجوب الانتهاء إلى علّة لا علة لها، نضرب إليك مثلاً من هذه التصاميم التي يضعها المهندسون للطائرات والسيارات، وغيرها من الآلات والبنايات، فإنها جميعا لا بدّ أن تنتهي إلى المخترع الأول الذي وضع التصميم من تلقائه، يأخذ الغير منه، ولم يأخذه هو من أحد، ولو افترض أنه لا مخترع أول للتصميم، لزم أن لا يوجد اختراع ولا شيء يمتّ إلى التصميم على الإطلاق. وعلى هذا، فليس لأحد أن يقول ويسأل: ممن أخذ المخترع الأوّل هذا التصميم، لأن معنى مخترع أنه لم يتلقَّ من الغير، وهذه الحقيقة تدلّ على صحتها بنفسها، تماماً كما تدل الشمس على ضوئها.. وهكذا الحال بالنسبة إلى الخالق والرازق، فإن معناه أنه يخلق ولم يخلق، ويرزق ولم يرزق.. لذا كان ليبنتز يسمّي الله المهندس، أي المخترع، وأفلاطون يسميه الصانع، إشارة إلى أنّه خالق غير مخلوق.
ومنهم من استدلّ على وجود الله بنظام العالم وتنسيقه واطّراد هذا النظام والتنسيق، ويسمَّى هذا الدليل بالدليل الغائي.


- ملحوظة - يرى الكثير من علماء الطبيعة الجدد، أنّ ظواهر الطبيعة لا يجوز تفسيرها بالعلّة الغائية، بل يتحتّم تفسيرها بالعلة الفاعلية.
والجواب: إنّا نستكشف وجود العلة الفاعلية من وجود العلّة الغائية، تماماً كما نستكشف من ترتيب السرير ترتيباً هندسيّاً وجود النجار الخبير. ويتّضح الجواب أكثر من تقرير الفرض الضروري فيما يلي:
ومنهم من اعتمد الفرض الضّروري الذي يعتمده علماء الطبيعة وغيرهم في اكتشاف العديد من الحقائق، ومن هذا الفرض، نظرة الجاذبية التي اكتشفها نيوتن من سقوط التفاحة على الأرض، فإن جميع الافتراضات غير الجاذبية خاطئة، وافتراض الجاذبية صحيح، ومن هنا جزم نيوتن بوجودها.
أمّا تطبيق هذا الدليل على ما نحن فيه، فهو أنّا نشاهد نظام العالم وتماسكه واطراده، وكلّ ما نفترضه لوجود هذا النظام غير الخالق الحكيم، فهو فرض فاسد يرفضه العقل، ولا يتقبل العقل إلا وجود خالق حكيم هو الذي نظَّم ورتب. وإليك هذا المثال: إذا رأيت اسمك مكتوباً في الفضاء بأحرف من نور، ثم بحثت في كلّ جهة فلم تر أحداً، فلا بدّ أن تفترض أن إنساناً عاقلاً يوجد في مكان ما يملك آلة يستطيع بواسطتها أن يرسم أحرفاً في الفضاء من نور متماسكة منسجمة.. وأيّ فرض غير هذا، كالصّدفة، أو اصطدام سيارتين، أو وجود بركان، كلّ ذلك وما إليه يجرّك إلى الخطأ، وعلى الأقلّ، لا يركن إليه عقلك إلا إذا افترضت وجود الشخص الذي يملك الآلة.. وهكذا الحال بالنّسبة إلى نظام الكون.
وأخطر كلمة وأوضحها كلمة «فولتر»، حيث يقول: «إن فكرة وجود الله فرض ضروري، لأن الفكرة المضادة حماقات». وقرأت في كتاب الظاهرة القرآنية ص 91 طبعة 1958: «إن نوعاً من النمل في أمريكا يغادر مساكنه قبل اندلاع الحريق فيها بليلة». ومهما فرضت لذلك من الفروض والتفاسير، فلا تركن النفس أبداً إلا بفرض وجود مدبر حكيم أعطى لكلّ نفس هداها.

ومنهم من يعتمد البرهان الخلقي، ويقول: لولا الإيمان بوجود الله، لانهارت المقاييس الخلقية، ولم يكن من رادع يردع النّاس عن الشرّ، ولا وازع يبعثهم على عمل الخير.
وهذا الدليل في واقعه أقرب إلى إنكار الخالق من الاعتراف به، إذ يكون الإيمان بالله، والحال هذه، وسيلة لا غاية، بحيث لو افترض وجود إنسان يفعل من تلقائه ما ينبغي فعله، ويترك ما ينبغي تركه، لما وجب عليه الإيمان بالله وليس من شكّ أن جعل الله أداة أقبح من إنكاره. ومنهم من يعتمد الدّليل اللّدني، وهو الشعور والإحساس القلبي مباشرة، ويقول: إن قلب الإنسان يدرك وجود الخالق مباشرةً من غير براهين ومقدّمات، تماماً كما يحسّ الحبّ والبغض، وتقدَّم الكلام عن ذلك مفصّلاً عند تفسير الآية: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.
وأفضل الطرق كلّها هو الطريق الذي استدلّ به الله سبحانه على وجوده، ويتلخّص بالنظر والتفكير في خلق السماوات والأرض، وفي الإنسان والموت والحياة، والنعم الجلَّى، وما إلى ذاك مما جاء في القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، ونهج البلاغة.
وهذا الطريق، وإن رجع في حقيقته إلى الدّليل الكوني والغائيّ، إلا أن تقريره في هذا الأسلوب يبعده عن التكلف والتعسف، ويقرّبه إلى أفهام الخواص والعوام.. ومن لا يقتنع من الله سبحانه بما أورده هو جلّ وعلا من الأدلة على وجوده، فهل يقتنع من عبد مثله؟
وغريبة الغرائب، أن الجاحد يؤمن ويعتقد أن القميص الذي يلبسه - مثلاً - قد زرع بذره الفلاح بانتظام، ثم غزله وحاكه العامل بإتقان، ثم باعه التاجر بمعرفة، ثم فصَّله وخاطه الخياط على القدر المطلوب، إنه يعتقد بهذا كلّه، ثم لا يعتقد بوجود من أتقن وصنع كلّ شيء؟.


وبالإضافة إلى الأدلة على وجود الله الّتي تدخل تحت ضابط عام، وقاعدة كلية، فإنّه سبحانه قد أعطى كلّ إنسان دليلاً خاصاً به وحده على وجوده جلّ وعزّ، لا يشاركه فيه سواه، فما من إنسان، أيّاً كان، إذا رجع إلى ما مرّ به من حوادث وتجارب، وتأمّلها بإمعان، إلا ويجد في حياته أشياء لا تفسير لها إلا إرادة الله ومشيئته.
وإني أستبعد كلّ البعد أن يعيش إنسان، أيّ إنسان، ولو كان كافراً، يعيش حيناً من الدهر دون أن تمرّ لحظة واحدة في حياته، ولا يرجع فيها إلى الله تلقائيّاً ومن غير قصد وشعور، وإلى من يتجه في أحلك لحظات الشدّة ؟ إنّه من غير شكّ يعود إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، وطبعت كلّ مولود بطابعها، حيث لا أب يعلّمه، ولا أمّ تلقنه، ولا محيط يكيفه.
قال زنديق للإمام جعفر الصادق (عليه السلام): ما الدليل على وجود الصّانع؟ قال الإمام: لو ركبت البحر، وهاجت الرّياح، وغرقت السفينة والملاحون، وبقيت أنت حيّاً، فهل ترجو النجاة لنفسك؟
قال الزنديق: أجل.
قال الإمام: إن الصانع هو الذي ترجوه آنذاك. وبالتالي، فإني أنصح من يشكّ في وجود الله، أن يقرأ أدلة الجاحدين والماديين، فإنّه سينتهي حتماً إلى الإيمان بالله، إذ لا يجد دليلاً على إنكارهم، إلا انهم يريدون أن يروا الله بالعين، ويلمسوه باليد، ويشمّوه بالأنف، وقد ذكرت الكثير الكثير من أدلة هذا الباب في كتاب «الله والعقل»، وكتاب «فلسفة المبدأ والمعاد» الذي وضعته خاصّة للردّ على الفلسفة المادية، وكتاب «بين الله والإنسان»، وكتاب «معالم الفلسفة»، وكتاب «الإسلام مع الحياة»، وكتاب «إمامة عليّ والعقل».
وغير هذه المؤلّفات من الكتب والمقالات.. والله سبحانه المسؤول أن يطهّر نفوسنا من الشكّ والرّيب، وأن يشملها بتوفيقه ورضوانه..

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد