علمٌ وفكر

حتم القضاء واكتساب الكمالات

الشيخ محمد الريشهري

من الإشكالات المطروحة في باب القضاء والقدر أن: التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، وفي ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة، واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ ومقضية بقضاء محتوم، أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والإتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق والدفاع عن الحق ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي في كسب كل كمال وترك كل نقص بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كل كمال.
 
 الجواب: إن الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للأكل، غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الأكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطأ أن يفرض الإنسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شئ من أجزاء علله. فغير جايز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، وإليه تنتسب سعادته وشقاؤه، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال والملكات الحاصلة من أفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببًا وحيدًا وعلة تامة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شئ آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية، فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل والفرح والأسى والغم...
ونحو ذلك يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا، وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله، وهو جاهل بأن بقية الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص - وهي ألوف وألوف - لو لم يمهد له الأمر لم يسد اختياره شيئًا، ولا أغنى عن شئ.
يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحياة - إلى ألوف وألوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، وإن كان اختياره موجودًا. على أن نفس اختيار الإنسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان، فالاختيار لا يكون بالاختيار. فإذا عرفت ما ذكرنا - وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مر - ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد، وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض. فما كان من الأفعال أو الأحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع، كقوله تعالى: ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾[1]. وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الإنسان في التأثير، وكونه سببًا تامًّا غير محتاج في التأثير، ومستغنيًا عن غيره، فإنه يثبت استناده إلى القضاء ويهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلًا، ولا يحزن بما فقده جهلًا، كما في قوله تعالى: ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾[2]، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾[3]، فإنه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل﴾[4]، نهى رسوله (صلى الله عليه وآله) عن الحزن والغم استنادًا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه، بل ما على الأرض من شئ أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك. وهذا المسلك - أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق - طريقة الأنبياء، ومنه شئ كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.

 وهاهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شئ مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، وهو تربية الإنسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى: إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع. وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: ﴿إن العزة لله جميع﴾[5]، ويقول: ﴿إن القوة لله جميع﴾[6]، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقي موضوعًا لرياء، ولا سمعة، ولا خوف من غير الله، ولا رجاء لغيره، ولا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كل ذميمة - وصفًا أو فعلًا - عن الإنسان تحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهية من التقوى بالله، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية. وأيضًا قد تكرر في كلامه تعالى أن الملك لله، وأن له ملك السماوات والأرض، وأن له ما في السماوات والأرض، وقد مر بيانه مرارًا، وحقيقة هذا الملك - كما هو ظاهر - لا تبقي لشئ من الموجودات استقلالًا دونه، واستغناء عنه بوجه من الوجوه، فلا شئ إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته، وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتًا ووصفًا وفعلًا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشئ، أو يخاف أو يرجو شيئًا، أو يلتذ أو يبتهج بشئ، أو يركن إلى شئ، أو يتوكل على شئ، أو يسلم لشئ، أو يفوض إلى شئ، غير وجهه تعالى. وبالجملة: لا يريد ولا يطلب شيئًا إلا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شئ، ولا يعرض إعراضًا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعًا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه. وكذلك قوله تعالى: ﴿الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى﴾[7]، وقوله: ﴿ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ﴾[8]، وقوله: ﴿الذي أحسن كل شئ خلقه﴾[9]، وقوله: ﴿وعنت الوجوه للحي القيوم﴾[10]، وقوله: ﴿كل له قانتون﴾[11]، وقوله: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾[12]، وقوله: ﴿أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد﴾[13] وقوله: ﴿ألا إنه بكل شئ محيط﴾[14]، وقوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾[15]. ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون... ﴾ إلى آخرها، فإن هذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، ولا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم، فإن المسلك الأول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح، والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الإسلام على مشرعه وآله أفضل الصلاة، هذا.

 فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الإسلام، وحاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤون المدينة التي بسطتها الدعوة الدينية الإسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الإسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو إليها جميع الأنبياء، هذا. وأنت بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره وخبط رأيه، فإن النتيجة فرع لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال، وهذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الإنسان في حياته الآخرة، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق!. وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنساني جمًّا غفيرًا من العباد الصالحين، والعلماء الربانيين، والأولياء المقربين رجالًا ونساء، وكفى بذلك شرفًا للدين. على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بناءه على الحب العبودي، وإيثار جانب الرب على جانب العبد، ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، وللحب أحكام..

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الأعراف: 28.
[2] النور: 33.
[3] البقرة: 3.
[4] الكهف: 7.
[5] يونس: 65.
[6] البقرة: 165.
[7] طه: 8.
[8] الأنعام: 102.
[9] السجدة: 7.
 [10] طه: 111.
[11] البقرة: 116.
[12] الإسراء: 23.
[13] فصلت: 53.
[14] فصلت: 54.
[15] النجم: 42.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد