الحركة الاختياريّة وغير الاختياريّة
قد تحصل الحركة التكامليّة بشكل طبيعيّ لاإراديّ عند اجتماع الشرائط اللازمة لدى الموجود الذي يمتلك قوةً كافيةً لتكامل خاصّ. وقد يتوقف حصولها على إعمال الإرادة والاختيار، وهذا ما نلاحظه بوضوح في نشاطاتنا الاختياريّة، ونميّز بينها وبين الأفعال الطبيعيّة واللاإراديّة الأخرى بكل وضوح أيضًا.
من البديهي أنّ مدى التكامل والتقدّم في الحركات الاختياريّة مرتبطٌ بإرادة الموجود المتحرّك واختياره. بعبارة أُخرى، إنّ عدم الوصول إلى الكمال المطلوب ليس معلولًا فقط لنقص الطاقات الذاتيّة أو عدم مساعدة الشرائط والإمكانات الخارجيّة، بل قد يستند إلى إرادة الشخص نفسه، ولأنّ الانتخاب لا يحصل بلا علم ووعي، فإنّ حسن الانتخاب مرتبطٌ بالعلم والتشخيص الصحيح، وكلّما كانت دائرة المعلومات أوسعَ وإمكانات كسب العلوم اليقينيّة أكبرَ، فإنّ إمكانات الاستفادة الصحيحة منها للتكاملات الاختياريّة ستكون أكثر وأوفر،كما أنّه كلما كان ميدان التحرّك أوسع والشرائط الخارجيّة أكثر تنوّعًا، فإنّ الأعمال الاختياريّة يمكن تأديتها بحرّية أكبر.
ومن هنا، يحصل لنا دليلٌ واضح على لزوم معرفة الهدف، ومعرفة السير الصحيح نحوه؛ لأنّه -كما أشرنا- يتوقّف الاختيار على العلم والوعي، والتكامل الإنسانيّ أو على الأقلّ قسطٌ من هذا التكامل هو اختياريّ بلا ريب.
من الطبيعيّ أنّنا سنتحدّث في ما يأتي -إن شاء الله تعالى- عن حدوث الإرادة والعوامل التي تؤثّر في هذا الحدوث.
هنا يُثار سؤالٌ عن وجود موجودات أُخرى غير الإنسان لها اختيار الحركة. وعلى فرض وجودها، فهل يوجد فيها ما هو أكمل من الإنسان؟
معرفة الكمال قبل الحصول عليه
من البديهيّ أنّ معرفة الكمال الحقيقيّ للإنسان، بمعنى الإدراك الوجدانيّ والعلم الشهوديّ به، إنمّا يتهيّأ لأولئك الذين وصلوا إلى درجته.
لكن، لـمّا كان الوصول إلى الكمالات الاختياريّة يتوقّف على العلم والوعي، فإنّه من اللازم معرفة مثل هذه الكلمات بشكل ما معرفة مسبقة، لكي تقع موقع الشوق والإرادة، فتحصل بالاختيار والانتخاب.
ولو كان سبيل معرفتها منحصرًا بالحصول عليها، لم يكن الحصول عليها ممكنًا. فالمعرفة التي نحتاجها مسبقًا ليست من قبيل المعرفة الشهوديّة الوجدانيّة، بل هي معرفة ذهنيّة أو علم حصولي -كما في الاصطلاح- يحصل عن طريق البرهان والاستنتاج، من المقدّمات العقليّة أو الاستنباط من الأصول النقليّة المسلّم بها. والواقع أنّ هذا البحث يحتاج إليه المحقِّقون الباحثون الذين يسعون إلى معرفة الكمال ومعرفة طريق للوصول إليه. أمّا الّذي نال الكمال الحقيقيّ، فإنّه لا يجد حاجةً لمثل هذه البحوث.
على هذا، فإنّ توقّع معرفة حقيقة الكمال الإنسانيّ قبل الوصول إليه -بحيث نعرفه كما نعرف مدركاتنا الوجدانيّة- توقّع لا محلّ له ولا سبيل إلّا سبيل الاستدلال للحصول على المعرفة الذهنيّة لا الشهوديّة، وتعيين مشخّصاتها بمعونة العقل والنقل.
ومن الطبيعيّ، فإنّنا سنسعى إلى أن نختار مقدّمات الاستدلال من أبسط المعلومات اليقينيّة والوجدانيّة، وأوضحها؛ لتكون النتيجة أوضح وأكثر اطمئنانًا، وتتوسّع الفائدة. وقد نشير إلى بعض الأدلّة النقليّة أو البراهين العقليّة المعقّدة.
هل يمكن معرفة الكمال الحقيقيّ للإنسان بالتجربة؟
يمكن أن يتصوّر أحد أنّه كما يمكن معرفة كمال شجرة أو حيوان عن طريق التجربة، فإنّ من الممكن حلّ هذه المسألة في مورد الإنسان بمعونة التجارب العلميّة، أي يمكن دراسة أفراد كثيرة في أزمنة وأمكنة مختلفة، وملاحظة الكمالات التي يحصلون عليها، وحدودها القصوى. ومن ثمّ معرفة شرائط الكمال وسبيل الوصول إلى الكمال النهائيّ.
ولكن، أدنى تأمّل يوضح أنّ الأمر ليس بهذه السهولة في مورد الإنسان؛ ذلك:
أوّلًا: لأنّ النباتات والحيوانات من حيث الكمالات الوجوديّة هي في درجة أدون من الإنسان، ومن هنا، فإنّ كلّ إنسان يمكنه أن يعرف كمالاتها ويدرسها، ولكنّ الأفراد الذين لـمّا ينالوا الكمال الحقيقيّ لا يستطيعون معرفة نسخ هذه الكمالات، ومَنْ هُمُ الواجدون لها، وهم في هذه الجهة كالأطفال الراغبين في معرفة الكمالات الخاصّة بالأفراد البالغين، ولا يمكن أن يُسهم في ذلك إلّا نُخبة وصلت على الأقلّ إلى المراتب الأوليّة للكمال الحقيقي للإنسان.
ثانيًا: إنّ كمال أيّ نوع من أنواع النباتات والحيوانات له حدٌّ معيّن يمكن تجربته ومعرفته بكل سهولة. ولـمّا لم تكن هناك فروق بين أفراد نوع واحد منها خلال قرون، من حيث نوع الكمال والحدّ النهائيّ له، فإنّه بملاحظة ودراسة عدد منها يمكن الاطمئنان إلى أنّ كماله النوعيّ هو ما أُدرِك لا غير. فكمال شجرة التفّاح يكمن في إعطائها ثمرةً لها طعمٌ ولونٌ ورائحةٌ خاصّة، وفي حجم معيّن، وكمال النَّحْلة في أن تعيش بنظام وتهيِّئ سائلًا حلوًا معطّرًا يُسمّى «العسل».
ومن الطبيعيّ أنّه من الممكن أن تكون للتفّاح والعسل خصائصُ أخرى ومنافعُ لم يتوصّل البشر إليها تمامًا. لكنّ مثل هذه الفوائد، أيًّا كانت، هي من صفات التفّاح والعسل التي كانت تلك الشجرة أو النحلة تمتاز بها خلال قرون. لكن عندما نلاحظ الإنسان، هذا الموجود العجيب المليء بالأسرار، نجد أنّه على الرغم من صغره النسبيّ في الحجم، وشبهه في كثير من الأمور المادّيّة مع سائر الحيوانات، فإنّه مع ذلك يمتلك خصائص تميّزه عن غيره تمامًا.
إنّه الإنسان الذي ينكشف لنا يومًا بعد يوم جانبٌ من أسرار وجوده، وتُعرَض لنا صفحة جديدة من فنونه الرائعة، إنّه الإنسان الذي لم يتوقّف من بدء خليقته إلى الآن عن التحرّك والتغيّر؛ ليعرضَ كلّ يوم هذه المظاهر المختلفة، من العلوم والصنائع على مسرح العالم الواسع. على أنّ هذا التقدّم العجيب إنّما هو من الثمار المادّيّة لهذه الشجرة المحيّرة. أمّا معرفة الثّمار المعنويّة ميسّرة بمثل هذه السهولة، وقد تكون العجائب الرّوحيّة والمعنويّة أعظم من العجائب المادّيّة.
ونحن نجد سالكي سبيل العالم المعنويّ يبدون بعض الأمور التي لا يفهمها الآخرون، ويقومون بأعمالٍ لا يمكن أن نفسّرها بقوانيننا المادّيّة، كما لا يمكن إنكارها مطلقًا.
مع كلّ هذا، فهل يمكننا أن نقول إنّ معرفة الحدود الوجوديّة للإنسان -بالأسلوب نفسه الذي تُعرف به كمالات النباتات والحيوانات- شيء عمليّ؟
ثالثًا: إنّ ما يقبل التجربة مباشرةً هو الأشياء التي تقبل الإدراك الحسّي. أمّا الكمالات الرّوحيّة والفضائل المعنويّة، فلا يمكن تجربتها مباشرةً ومعرفة موازينها. ولو قلنا إنّ آثار الكثير منها ممّا يقبل التجربة إلى حدٍّ مّا، فإنّ معرفة منابعها النفسيّة التي انطلقت منها هذه الآثار وتقييم كمالها ممّا لا يقبل التجربة.
بملاحظة ما سبق، لا عجب إذا رأينا الفلاسفة والعلماء يختلفون حول تشخيص الكمال الحقيقيّ للإنسان.
آراء الفلاسفة حول كمال الإنسان
بملاحظة الاختلافات الموجودة بين الفلاسفة والمفكّرين في النظرة الكونيّة، فإنّه من الطبيعي أن توجد مواقف وأنظار مختلفة حول الإنسان. لكن دراسة تلك المواقف والآراء كلّها وعلاقاتها بالمذاهب المختلفة ليست بذات فائدة مهمّة، ولهذا فإنّنا سنكتفي بذكر بعض الآراء الأساسيّة فيها:
1. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في أكبر تمتّع من اللذائذ المادّيّة. وللوصول إلى ذلك، تجب الاستفادة من العلم والتكنيك لاستثمار المنابع والثروات الطبيعيّة لتحقيق حياة أكثر رفاهًا ولذّةً، وهذا الرأي مبنيّ على أصالة المادّة واللذّة وأصالة الفرد.
2. إنّ الكمال الإنسانيّ هو في حصوله الاجتماعيّ على المواهب الطبيعيّة. وللوصول إليه يجب السعي إلى تحقيق رفاه الطبقات الاجتماعيّة كلّها. وفرق هذا عن سابقه يكمن في أنّه يُبنى على أصالة المجتمع.
3. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّه المعنويّ والروحيّ الذي يحصل بالارتياض والنضال ضدّ اللذائذ المادّيّة. وهذا الرأي يقف في قبال الرأيين السابقين تمامًا.
4. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّه العقليّ الذي يحصل عن طريق العلم والفلسفة.
5. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّه العقليّ والأخلاقيّ الذي يحصل عن طريق تحصيل العلوم وكسب الملكات الفاضلة.
الرأيان الأخيران كالرأي الثالث يتنافيان مع أصالة المادّة، في حين يفترق الثالث بأنّه ينظر إلى البدن كعدوّ، وتجب مكافحته، وبالانتصار عليه يحصل الكمال الإنسانيّ. أمّا في الرأيين الأخيرين، فإنّه ينظر إلى البدن كوسيلة يستفاد منها للوصول إلى الكمال. والفرق بين الرأي الرابع والخامس واضحٌ، وإن كان الرأي الخامس قد يُطرح كتفسير للرابع.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة