علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

ضرورة معرفة الذات

من الطبيعيّ جدًّا للموجود الّذي يحمل في فطرته حبّ الذّات أن يعرف هذه الذّات، ويدرك كمالاتها وسبل الوصول إليها، فلا نحتاج إلى الأدلّة العقليّة المعقّدة أو التعبّديّة الشرعيّة إلى أن ندرك ضرورة معرفة الذات.

ومن هنا، فإنّ أيّ تغافلٍ عن هذه الحقيقة، والانشغال بالأشياء التي لا تملك أيّ دخلٍ في الكمال والسّعادة الإنسانيّة أمرٌ غيرُ طبيعيّ وانحرافيّ بلا ريب، وهذا ما يتطلّب منّا البحث عن علّة هذا الانحراف، ومعرفة سبيل الخلاص من آثاره السلبيّة.

 

والحقيقة، أنّ أنماط السعي الإنسانيّ كلّها، سواء العلميّ منها أو العمليّ، إنّما يحصل لضمان اللذّات والمنافع والمصالح للإنسان. لذا، فإنّ معرفة الإنسان لنفسه وبدئه ومنتهاه، وكذلك كمالاته التي يمكن الوصول إليها، هذه المعرفة مقدّمة للمواضيع كلّها، بل من دون معرفة حقيقة الإنسان وقيمته الواقعيّة لا تبقى أيّ فائدة وقيمة للبحوث الأخرى.

إنّ تأكيد الأديان السماويّة وقادة الدين وعلماء الأخلاق على معرفة النّفس وكشف حقيقتها هو إرشادٌ إلى هذه الحقيقة الفطريّة والعقليّة، فهذا القرآن الشريف يَعتبر نسيان النفس من لوازم نسيان الله، وأنّه بمنزلة جزاء لهذا الذنب العظيم، فيقول -تعالى-: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُم أَنفُسَهُم﴾، وفي موضعٍ آخر: ﴿عَلَيكُم أَنفُسَكُم لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهتَدَيتُم﴾. وقد وجّه الأنظار إلى آياته -تعالى- في الآفاق والأنفس، فقال: ﴿سَنُرِيهِم ءَايَٰتِنَا فِي ٱلأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِم حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ ٱلحَقُّ﴾، وقد أَوْلى آيات الأنفس عنايةً خاصّةً، حين عبّر -تعالى- بقوله: ﴿وَفِيٓ أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُونَ﴾، فألقى باللّوم على أولئك الذين لا يسعَون إلى معرفة الآيات الإلهيّة في أعماق وجودهم.

وقد أعطى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) معرفة النّفس أهمّيّةً فائقةً، وجعلها سبيل معرفة الله، إذ قال: «من عرف نفسه، فقد عرف ربّه».

 

وقد نُقِلت رواياتٌ كثيرة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الصدّد، نقل منها المرحوم «الآمدي» ما يقرب من 30 روايةً في كتابه «غُرَرُ الحِكم»، ومنها هذه الكلمات القصار: «معرفة النفس أنفع المعارف». «عجبت لمن ينشد ضالّته وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها». «عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه». «غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه». «الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس».

وقد رُوِيَ عنه (عليه السلام) قوله: «كلّما زاد علم الرّجل، زاد عنايته بنفسه، وبذل في رياضتها وصلاحها جهدَه».

 

توضيحاتٌ ضروريّة

لـمّا كنّا نستعمل في حديثنا هذا بعض التّعبيرات التي تُستعمَل في مجالاتٍ أخرى بمعانٍ أخرى قد تختلف عن موارد استعمالنا، فإنّه يجب الالتفات إلى التّوضيحات الآتية لئلّا نقع في الاشتباه:

أ. إنّنا نقصد من «معرفة الذات» -كما أشرنا إليها- معرفة الإنسان من زاوية كونه متوافرًا على استعداداتٍ وطاقاتٍ تُمهّد له سبيلَ التكامل الإنسانيّ. ومن هنا، فإنَنا لا نستغني عن هذا البحث بمقدار ما يعلمه الواحد منَّا بنفسه علمًا حضوريًّا، كما أنّنا لا نقصد العلم الحضوريّ الكامل الّذي يحصل عليه الإنسان في أواسط سيره المعنويّ؛ فيشاهد الإنسان حقيقته من دون أيّ حجاب؛ لأنّ هذه الحالة من نتائج بناء الذات، لا من مقدّماتها. كما أنّها لا تبحث عن معرفة أجهزة البدن ومكوّناته وكيفيّة عملها -كما يبحث ذلك في علم الفسلجة- بل حتّى معرفة النفس وقواها الداخليّة بالنّحو الذي يبحثه علم النفس، فإنّها ليست غايتنا، وإن كنّا قد نستفيد من البحوث النفسيّة المقطوع بها؛ كمقدّمات ومبادئ لبحثنا هذا.

 

ب. إنّنا نقصد من «بناء الذات» عمومًا دراسة الذات والاهتمام بها منح النّشاطات الحياتيّة شكلها وجهتها، لا تحديدها وإيقافها. بعبارة أُخرى، إنّ الغرض من هذا البحث هو أن نعلم كيفيّة تنظيم مساعينا العلميّة والعمليّة، وما هي الوجهة الصّحيحة الّتي يجب توجيهها نحوها لِكَيْ يؤثّر ذلك في وصولنا إلى الكمال الحقيقيّ، على هذا، فإنّه لا يلزم من هذا البحث أن ننكرَ الحقائق الموضوعيّة خارج الذّهن، أو ننكر قيمة معرفتها، أو أيّ اتّجاهٍ مثاليّ غير إيجابيّ تمامًا، كما أنّ النّزعة البرجماتيّة (النفعيّة) القائمة على أصالة «مبدأ العمل المفيد للحياة المادّيّة الدنيويّة» والتي هي من مظاهر «الأومانيّة». هذه الاتّجاهات لا يمكنها أن تُبيّن حقيقة هذا البحث، بل سنرى أنّها تختلف عنها اختلافًا كلّيًّا، اللّهمّ إلّا أن يعطيَ بعض أنماط هذه الأفكار تفاسيرَ تتضمّن تصوّرًا متعاليًا ساميًا، وهو ما لم يقصده مؤسّسو هذه الاتّجاهات وأتباعها.

 

ج. إنّ المقصود من العودة إلى الذات والتأمّل في أعماقها والبحث عن أبعادها هنا هو أن يعرف الإنسان هدفه الأصليّ وكماله النهائيّ، وكذلك مسيرة سعادته ورقيّه الحقيقيّ، عبر التأمّل في وجوده واستعداداته الداخليّة، وميوله الباطنيّة، ولا نقصد قطع الرّوابط الوجوديّة للّذات بالآخرين وعدم أخذها بعين الحسبان وإنكار الإمكانات التي يهيّئها المجتمع والتّعاون الاجتماعيّ لتحقيق التّقدّم والتّكامل الذاتيّ.

فالمقصود إذًا من هذه التعبيرات ليس إلّا جوانبها الإيجابيّة، فيجب ألّا نخلط بينها وبين «الفرديّة» و«الباطنيّة السلبيّة» و«الأنانيّة» و«عبادة الذات»، وأمثال ذلك من التعبيرات التي نجدها في علم النفس أو الأخلاق، وغيرها التي تتضمّن معاني سلبيّة.

د. ثمّة ألفاظٌ أُخرى لها معانٍ اصطلاحيّة متعدّدة، ولها استعمالات متفاوتة في العلوم المختلفَة، بل قد يكون لبعضها معانٍ متغايرة، يَستعمِل معنى كلٍّ منها مذهبًا خاصًّا في إطار علم واحد مثل: العقل، النفس، الشهود، الحسّ، الإدراك، الخيال، القوّة، الطاقة، الغريزة...

 

والتقيّد باصطلاح خاصّ في مثل هذه الأمور يوقع السامع والمتكّلم في ضيق لا داعيَ له. ومن هنا، فإنّه لكي نعيّن المقصود من تعبير من هذه التعبيرات، ينبغي أن نعيّن المعنى من خلال سياق الكلام، وعلى أولئك الذين يأنسون اصطلاحًا عمليًّا وفلسفيًّا خاصًّا ألّا يحصروا أنسهم في إطار ذلك الاصطلاح، لئلّا يبتلوا بالخلط والاشتباه. 

(من كتاب: معرفة الذات لبنائها من جديد)

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد