لقد أودع اللَّه -سبحانه- في الكون والإنسان من الأدلّة على وجوده - تعالى - ما لا يُحصى عدداً، فالأدلّة على وجوده تعالى- بعدد أنفاس الخلائق، والعقل البشري قادر على الاستدلال على اللَّه - تعالى - وصفاته، وعلى الكثير من المسائل العقائديّة الأخرى إذا لم تؤثّر عليه الأهواء وتُحيط به الشّبهات، وقد تعدّدت الأدلّة وتنوّعت، ومع ذلك يُمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأوّل: دليل النظام: وهو الدليل الذي يعتمد على التأمّل في الكون والإنسان وما يكمن فيهما من الآثار والآيات الإلهيّة، ويرتكز هذا الدليل على مقدّمات حسّيّة، وأخرى عقليّة.
الثّاني: مجموعة أدلّة تعتمد بشكل أساس على مقدّمات عقليّة محضة منها الدليل المعروف بـ (دليل الوجوب والإمكان).
دليل النّظام
وهو من الأدلّة السّهلة الّتي يُدركها كلّ إنسان عاقل، لأنّه يرتكز على مقدّمتين يسهل إثباتهما، إحداها حسّيّة تجريبيّة وهي: "إنّ هذا العالم منظَّم"، وثانيتها عقليَّة بديهيَّة وهي: "إنّ كلّ منظَّم يحتاج إلى منظِّم".
والنّتيجة هي: "إنّ هذا العالم يحتاج إلى منظِّم وليس وليد الصدفة العمياء".
هذا هو دليل النّظام على الإجمال، وتفصيله يحتاج إلى:
1. معرفة المقصود من النّظام.
2. وتوضيح المقدّمات وإثباتها.
المقصود من النّظام
النّظام هو عبارة عن التناسق الموجود بين أجزاء المركَّب الواحد -كأجزاء الشجرة الواحدة- والتوازن الحاصل بين الموجودات -كالتوازن بين أنواع الحيوان والإنسان والنبات والهواء- إلخ بشكل يتحقّق منه الغرض والغاية من وجودها وعلى أكمل وجه.
مقدّمات دليل النظام
أ. إن هذا العالم منظّم: ويمكن إثباتها من خلال تأمّل الإنسان العاقل في هذا الوجود، بالمشاهدة الحسّيّة تارة، وبفضل ما وصلت إليه العلوم الطّبيعيّة تارة أخرى، فإنّ الإنسان -وبأدنى تأمّل- سيجد نظاماً يتحكّم في كلّ موجود على حدة، ونظاماً عامّاً يربط بين الموجودات كلّها بحيث تؤدّي دورها على أكمل وجه، ويتحقّق الهدف المنشود من وجودها.
فالمنظومة الشّمسيَّة بما تحويه من شمس وقمر وكواكب، عجيبة في تكوينها، دقيقة في حركاتها المنتظمة وما يترتّب عليها من مصالح وما يحدث بسببها من أحوال لازمة لها، كاللّيل والنّهار، والفصول الأربعة وما يترتّب على هذا الانتظام من فوائد.
وكذلك عالم النبات، وهو عالم عجيب في تركيبه وأسراره وفوائده، التي اكتشف العلم حتّى الآن جزءاً بسيطاً منها، وما خفي أعظم.
وأمّا الإنسان، فإنّه من أعجب وأعظم المخلوقات، فهو يحوي ما تفرّق في المخلوقات، وأُضيف إليه أجهزة معقّدَة أخرى، ولكنّها منظّمة بكيفيّة مثيرة للدّهشة، لما فيه من عجائب وأسرار وأنظمة. ومع أنّ الإنسان وضع تحت مجهر البحث المركّز في كلّ جوانب وجوده، إلّا أنّهم لم يتوصّلوا إلى معرفة الكثير من خصائصه. فمن عالم الخلايا، والجهاز الهضميّ والتّنفّسي والدّورة الدمويّة والقلب وغيرها الكثير من الأجهزة، ويبقى المخّ من أكثر أجهزة الإنسان تعقيداً، وله مركز القيادة وأوامره التي تحملها الأعصاب إلى أعضاء البدن... إلخ، فالشّواهد التّي تُثبت النّظام في الكون من أوضح الواضحات.
ب. إنّ كلّ مُنظَّم يحتاج إلى منظِّم: وهذه المقدّمة عقليّة بديهيّة، يُدركها الإنسان بمجرّد الالتفات إليها، ومن دون حاجة إلى دليل، فإنّ العقل إذا أدرك النّظام وما هو عليه من دقّة وروعة في التّقدير والتّوازن والانسجام، يحكم مباشرة بأنّ هكذا نظام يمتنع وجوده بدون فاعل عالم وقادر وحكيم هو الّذي أوجده ونظّمه، وينفي العقل إمكانيّة وجود هكذا نظام عن طريق الصّدفة، فالعقل الّذي يرفض إمكانيّة صدور مقالة بسيطة من إنسان أمّيّ لمجرّد أنّه ضغط عشوائيّاً على أحرف الآلة الكاتبة، فهو يرفض قطعاً وبشكل أوضح وجود هذا الكون والنّظام صدفة من دون خالق ومُنظِّم، وهذا الحكم يعتمد على قانون العلّيّة الثّابت بحكم العقل البديهي. فالعقل يحكم بالبداهة أنّ كلّ معلول يحتاج إلى علّة، ويستحيل وجوده دون علّة.
وبذلك تظهر النّتيجة بشكل جليّ، فالعالم منظَّم بحسب المشاهدات والعلوم، وكلّ منظَّم يحتاج إلى منظِّم بحسب البداهة العقليّة، إذاً فالعالم يحتاج إلى خالق منظِّم ويستحيل أن يكون وليد الصدفة العمياء، وهو المطلوب.
فوائد دليل النّظام
من أهمّ الفوائد الّتي نستفيدها من هذا الدّليل
أوّلاً: إنّه يُحرّك الفطرة الإنسانيّة ليرتقي بها إلى مرتبة الوعي والالتفات بعد النسيان والغفلة.
ثانياً: إنّه لا تقتصر وظيفته على إثبات وجود الخالق فحسب، بل تتعدّاه لإثبات بعض صفاته، ومنها أنّه عالم، قادر، إذ إنّ النّظام الهادف يجب أن يكون موجدُه عالماً، وتحقُّق النّظام خارجاً دليل القدرة، لأنّ خصائص الفعل تدلّ على خصائص الفاعل.
النّظام في الكتاب والسنّة
يزخر القرآن الكريم بالآيات الكريمة الّتي تُلفت الأنظار إلى ما في الكون من أنظمة بديعة، نذكر منها الآيات التالية:
1. ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾.
2. ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾.
3. ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾.
وفي كلمات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إشارات واضحة إلى هذا الدّليل كقوله عليه السلام: "ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة، لرَجَعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكنّ القلوب عليلة، والبصائر مدخولة".
وقد أملى الإمام الصّادق عليه السلام على تلميذه المفضَّل، عدداً من الأنظمة وما فيها من أسرار وحكم وعجائب، من أجهزة الإنسان والحيوانات الأخرى، والطيور والحشرات، والفلك وما يحصل من تغيّرات، والنباتات وأسرار اختلافها، والأمراض وأدويتها، ثمّ الموت والفناء.
دليل الوجوب والإمكان
يُعدّ دليل الوجوب والإمكان من الأدلّة العقليّة القريبة إلى الفهم، إضافة إلى كونه محكماً، وهو يُثبت وجود الواجب تعالى، واستغناءه عن غيره في وجوده، وأمّا صفاته الثبوتيّة والسلبيّة فتحتاج إلى أدلّة أخرى.
وقبل الشّروع في بيان هذا الدّليل لا بُدَّ أوّلاً من بيان بعض المصطلحات المرتبطة به، وذلك لأنَّ فهم معنى الوجوب والإمكان والدور والتسلسل يُعدّ الركن الأساس لفهم هذا الدّليل والاستفادة منه بالشّكل المطلوب والمفيد.
المصطلحات الواردة في الدليل
الأوّل: الوجوب والإمكان
إنّ وجود الموجودات المتحقّقة الوجود، لا يشكّ به عاقل، ويُدركه الإنسان بوجدانه من دون حاجة إلى دليل، وهذا الوجود لا يخلو عقلاً من أحد احتمالين:
الأوّل: أنْ يكون موجوداً بذاته وهذا يعني أنَّه لا يحتاج إلى ما يوجده، ولذلك لا يصحّ السؤال عن علّة وجوده، لأنّه ليس له علّة حسب الفرض وهو الواجب.
والثاني: أن لا يكون وجوده بذاته بل يحتاج إلى موجود آخر يوجده، ويصحّ أنْ يُسأل عن علّة وجوده لأنّه يستحيل وجوده بدون علّة وهو الممكن.
مثال تقريبي: لو قلت: الملح مالح، فإنّ ثبوت الملوحة للملح هو على نحو الوجوب، فهو واجب الملوحة، لأنّ ملوحته ذاتيّة له ويستحيل أنْ تنفكّ عنه، فإنّ اللَّه تعالى- أوجده مالحاً من البداية، لا أنّه تعالى- أوجد شيئاً ثمّ عرضت عليه الملوحة، ولذلك لا يصحّ السّؤال: لماذا الملح مالح؟ وأمّا لو قلت الطّعام مالح فإنّ ثبوت الملوحة للطّعام ليست ذاتيّة له، بل تتوقّف على غيره وهو الملح، ويمكن انفكاك الملوحة عن الطّعام، ويصحّ السّؤال: لماذا الطّعام مالح؟
وكذلك الحال بالنّسبة إلى وجود الواجب والممكن، فوجود الواجب بذاته، لا يحتاج فيه إلى غيره، أمّا وجود الممكن فليس بذاته، لذلك يحتاج فيه إلى غيره.
الثّاني: الدّور
وهو توقّف وجود الموجود الأوّل على الموجود الثاني، ووجود الثاني متوقّف على الأوّل، فكلّ منهما علّة لوجود الآخر، وعليه يلزم أنْ يكون كلّ واحد منهما متقدّماً لأنّه علّة، ومتأخّراً لأنّه معلول، وهذا جمع بين النقيضين وهو ممتنع بالبداهة. وبعبارة أخرى: فإنّه يلزم منه الدور، والدور باطل، وكل ما يلزم منه الدّور باطل أيضاً.
الثّالث: التسلسل
وهو عبارة عن توقّف الموجود الأوّل على الثاني، والثاني على ثالث... وهكذا لا إلى نهاية، بحيث تجتمع سلسلة من الموجودات الممكنة، كلّ واحد منها معلول للسّابق وعلّة للّاحق، مترتّبة غير متناهية. وهنا يُسأل عن العلّة الّتي أفاضت الوجود على هذه السّلسلة الممكنة، فإن كانت العلّة ممكنة كانت محتاجة إلى علّة أيضاً وهكذا لا إلى نهاية، ويلزم عدم وجود الموجودات، ولكنّ وجودها بديهي كما هو واضح. وإنْ كانت العلّة واجبة الوجود، أي: وجودها ذاتي، فقد انقطعت السّلسلة وحصل المطلوب. مثال: لو نزّلنا الموجود الممكن منزلة الصّفر، فاجتماع الممكنات بمنزلة اجتماع أصفار والّتي مهما تكاثرت لا تنتج عدداً بحكم فقرها الذاتي، فلا بدّ لها من عدد صحيح يحمل قيمة بذاته ليفيض منها على الأصفار، فتصبح حينئذ ذات قيمة.
مثال توضيحي:
لو أوقف قائدُ الجيش كلَّ جيشه في صفّ أفقي، وأصدر أمراً بإطلاق النار، لكنّه وضع شرطاً واحداً وهو: أن لا يُطلق أحدٌ النار حتّى يسمع من أطلق قبله، فإنّ الجنديّ الأوّل لا يُطلق النار حتّى يُطلق الثاني، والثاني لا يُطلق حتّى يُطلق الثالث، وهكذا، عندها لا يُطلق أحدٌ النار. إذاً لا بدّ من وجود شخص في البداية يُطلق النار من دون أيّ شرط ويعتمد على ذاته بالإطلاق، وعندها يُطلق الجميع النار.
المحصّل: إنّ فرض وجود ممكنات غير متناهية مستلزم لأحد أمرين: إمّا تحقُّق المعلول بلا علّة، وإمّا عدم وجود شيء في الخارج رأساً، وكلاهما بديهي البطلان، فالأوّل مخالف لقانون العليّة العامّ، والثّاني مخالف للوجدان.
تقرير دليل الوجوب والإمكان
تقدّم أنّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الممكنة الوجود، بمعنى أنّها تحتاج في وجودها إلى الغير، أي: تحتاج إلى علّة توجدها، بدليل أنّها لم تكن موجودة ثم وجدت، وهي في حال تبدّل وتغيّر، وهو دليل الإمكان، وعليه فوجودها لا يخلو من الاحتمالات التّالية:
1. إمّا أنّها وجدت من دون علّة، وهو باطل، لأنّها ممكنة الوجود، ولأنّ فرض وجودها من العدم يلزمه كون فاقد الوجود يُعطيه وهو باطل، لأنّ فاقد الشّيء لا يُعطيه.
2. وإمّا أنّ بعضها علّة للبعض الآخر، والآخر علّة للبعض الأوّل وهو باطل، للزوم الدّور الباطل بالدّليل أيضاً.
3. وإمّا أنّ البعض الأوّل علّة للثّاني، والثّاني للثّالث وهكذا لا إلى نهاية، وهذا باطل، للزوم التّسلسل الممتنع والباطل بالدليل.
4. وإمّا أنّ وجودها مفاض من موجود واجب الوجود بذاته غير محتاج لأيّ شيء، وهو المطلوب، وهذا الفرض هو الّذي يرضاه العقل ويحكم به.
دليل الوجوب والإمكان في القرآن الكريم
لقد أشار القرآن الكريم إلى مفردات هذا الدّليل، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ﴾.
ومعنى الآية: إنّ حقيقة (الإنسان) -الممكن- حقيقة مفتقرة لا تملك لنفسها وجوداً وتحقّقاً ولا أيّ شيء آخر، وإنّما وجودها وتحقّقها هو من خلال (الغني الحميد) واجب الوجود تعالى.
وقال تعالى: ﴿أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ﴾.
ومعنى الآية: أنّ الممكن، ومنه الإنسان، لا يتحقّق بلا علّة، ولا تكون علّته نفسه.
تنبيه: قد يقال إنّ الاعتقاد بوجود علّة غير معلولة موجودة بنفسها، يستلزم تخصيص القاعدة العقليّة القائلة: بأنّ الموجود لا يتحقَّق بدون علّة.
والجواب: إنّ القاعدة العقليّة لا تحكم على الموجود بما هو موجود بأنّه يحتاج إلى علّة، بل الحاجة إلى علّة هي من لوازم الموجود الممكن، فالقاعدة العقليّة تحكم بأنّ الموجود الممكن يحتاج إلى علّة، وليس مطلق الموجود، وهذا واضح ممّا تقدّم.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان