يدرك كلّ إنسان -بأدنى تأمّل في وجوده وبكلّ وضوح- أنّه بفطرته يبتغي اللذّة والراحة والسعادة، ويهرب من الألم والعذاب والشقاء. وهكذا ينصبّ سعي الإنسان الذي لا يكلّ في حياته للحصول على لذائذ أكثر وأقوى وأكثر دوامًا، والفرار من الآلام وأنواع العذاب والأمراض، أو التقليل منها على الأقلّ. وعند التزاحم، فإنّ الإنسان يقارن بين الأمرين، فيتقبّل الألم القليل في سبيل الخلاص من العذاب والألم الشديد، ويضحّي باللذّة المحدودة في سبيل الأشدّ والأكثر دوامًا.
كما أنّ مقتضى العقل والفطرة الإنسانيّة أن يتحمّل الإنسان عذابًا قليلًا للوصول إلى لذّة كبرى ودائمة، وأن يَغضّ النظر عن لذّة قليلة للخلاص من العذاب الكثير. وإنّك لتجد التصرّفات العقلائيّة كلّها قائمة على أساس من هذا المعنى. أمّا ما يحدث من اختلاف في التصرّف بين الأفراد في ترجيح بعض اللذّات والآلام، فهو نابع من اختلافهم في التشخيص، أو خطئهم في الحساب، ومن عوامل أخرى سنتحدّث عنها في ما بعد.
فاللذّة إذًا -من جهة- دافعٌ للنشاط والسعي الحياتيّ، ومن جهة أُخرى هي نتيجة وثمرة لهذا النشاط، ومن جهة ثالثة يمكن أن نجعلها كمالًا للموجودات ذات الشعور والإدراك باعتبارها صفة وجوديّة يمتلك الأفراد استعداد الحصول عليها.
وإنّ العمل الذي يؤدّي إلى حصول لذّة والخلاص من ألم ما، يقع موقع الإرادة الإنسانيّة، فهو -أيّ الإنسان- يحبّ كل ما يلتذّ به، وهكذا يأتي تعبير الحبّ بالنسبة إلى العمل والصفات المرغوبة. ومن هنا تتوضّح العلاقة بين اللذّة والإرادة والحبّ.
ينبغي أن نلتفت إلى أنّه قد يركّز الإنسان على لذّة معيّنة، يحتاج الوصول إليها إلى مقدّمات كثيرة. ومن هنا، فهو يصمّم على القيام بأعمالٍ يمكن أن يكون كلٌّ منها بدوره مقدّمة للآخر، ولكنّ الواقع هو أنّ الإرادات المتعلّقة بهذه الأعمال أشعّة من تلك الإرادة الأصليّة التي تعلّقت بالعمل الأصليّ الذي ركّز عليه الإنسان من أوّل الأمر.
وهكذا، فالحبّ الأصيل يتعلّق بموجود يسعى إليه ويرغب فيه بالأصالة. وفي ظلّ ذلك، تحصل له رغبات جزئيّة وفرعيّة إلى مقدّماته ومتعلّقاته؛ فيحقّق الوصول إلى أيّ منها لذّة فرعيّة ونسبيّة بمقدار ارتباطه بذلك المطلوب الأصيل.
وقد رأينا في ما سبق أنّ الكمال الحقيقيّ للإنسان هو آخر المراتب الوجوديّة وأعلى الكمالات التي يمتلك القدرة على الوصول إليها. أمّا الكمالات الأُخرى، فهي تمتلك صفة مقدّميّة وهي كمالات آليّة نسبيّة. ترتبط مقدّميّتها بمقدار تأثير أيٍّ منها في إيصال الإنسان إلى كماله الحقيقيّ، وإن كان الكمال الحقيقيّ نفسه له مراتب مختلفة.
على هذا، فإنّ المطلوب الأصيل للإنسان هو الكمال الحقيقيّ. أمّا مطلوبيّة الأشياء الأُخرى، فهي فرعيّة تتبع مقدار أثرها في حصول الكمال الحقيقيّ. وكذلك فإنّ اللذّة التي يطلبها الإنسان بالأصالة هي اللذّة التي يملكها الكمال الحقيقيّ، في حين تمتلك سائر المقدّمات لذّات فرعيّة نسبيّة، ذلك أنّنا قلنا آنفًا أنّ اللذّة الأصيلة هي تلك التي تحصل من الوصول للمطلوب الأصيل.
وعليه، فمعرفة الكمال الحقيقيّ تستلزم معرفة اللذيذ الأصيل، وكذلك العكس حيث تتطلّب معرفة اللذيذ الأصيل معرفة الكمال الحقيقيّ. ولأنّ اللذيذ الأصيل يملك أسمى لذّة ممكنة للإنسان، فإنّ معرفة اللذيذ الأصيل تُلازم معرفة الشيء الذي يمكنه أن يقدّم للإنسان أكثر اللذّات وأسماها وأكثرها دوامًا. ومن هنا فلو عرفنا أكثر الموجودات منحًا للذّة، عرفنا اللذيذ بالأصالة والكمال الحقيقيّ للإنسان.
فينبغي إذًا التأمّل في حقيقة اللذّة، وسبب اختلاف مراتبها، لكي نعرف أسمى اللذّات الإنسانيّة وأشدّها دوامًا.
ما هي اللذّة؟ وما هي أسمى اللذّات الإنسانيّة؟
إنّ ما نراه في وجودنا ونعبّر عنه باللذّة هو حالة إدراكيّة تحصل لدينا عند حصولنا على شيء نهواه ونرغب فيه، وذلك حين نعلم أنّه هو المطلوب كما نعلم ونلتفت إلى حصوله. إذًا، فإنّنا لم نكن نعلم بأنّ ما حصلنا عليه هو المطلوب، فإنّ هذا الحصول لن يترك لذّة في وجودنا، وكذلك إذا لم نكن نعلم بحصوله لدينا، فإنّنا لن نلتذّ بشيء.
وعليه، فحصول اللذّة يتوقف -بالإضافة لوجود الشيء المطلوب والشخص الملتذّ- على امتلاك قوة إدراكيّة خاصّة يمكن أن يدرك به حصول الشيء المطلوب، وكذلك يتوقّف على معرفة المطلوب والالتفات لحصوله. أمّا المراتب المختلفة للذّة، فهي ترتبط إمّا بالقوّة المدركة، أو بنوع المطلوبيّة، أو بالتفات الإنسان إليها.
فمن الممكن أن يكون التذاذ شخص من أكلة معيّنة أكثر منه لدى شخص آخر؛ وذلك لأنّ الحاسّة الذائقة لديه أقوى وأكثر سلامة. كما يمكن أن يلتذّ إنسان بطعام ٍأكثر من غيره؛ لأنه كان مرغوبًا لديه أكثر. وقد يكون التذاذ شخص ما بطعام معيّن حال التفاته الكامل أكثر منه حال فقدان هذا الالتفات وتوجّهه للأشياء الأخرى. وقد يختلف التذاذ تلميذين بمعرفة معيّنة مختلفة، نتيجة اختلاف تصوّرهما عن هذه المعرفة المعيّنة وضرورتها ومدى تأثيرها في كمال الإنسان وصلاحه.
كما أنّه من الواضح أنّ دوام اللذّة مرتبطٌ بدوام ظروف تحقّقها، فإذا فنيت ذات الشيء المطلوب، أو تغيّر حالة المطلوبيّة أو تغيّر تصوّر الشخص، أو اختلفت حالة التوجّه إليها، فإنّ اللذّة المفروضة سوف تتغيّر بلا ريب.
وهذا التعدّد الذي نلاحظه بين الذات الملتذّة والشيء اللذيذ وشرائط حصول اللذّة نجده في عموم اللذّات المتعارفة؛ لكنّنا قد لا نجد هذا التعدّد في حقيقة اللذّة في موارد أخرى؛ فنستعين بنوع من التحليل المفهومي حتّى يمكننا استعمال كلمة «اللذّة» فيها، وهذا ما نجده في موردي «العلم» و«الحبّ».
فمثلًا، يلزم لكي يحصل العلم أن تكون هناك ذاتٌ عالمةٌ وشيء معلوم وصفة للعالم تُدعى «العلم»؛ لكنّ المعنى التحليليّ لذلك هو الذي يمكن أن يصدق في مورد «العلم الحضوريّ» للنفس بوجودها، أو علم الله -تعالى- بذاته، على الرغم من أنّه لا يوجد أيّ تعدد في البين بين العلم والعالم والمعلوم.
وكذلك المفهوم المتعارف للحبّ، فإنّه يستلزم فرض ذات محبّة وشيء محبوب وحالة حبّ؛ لكنّه في مورد حبّ الذات لا يوجد مثل هذا التعدّد الخارجيّ.
على هذا، يمكننا أن نجد مصاديق للذّة لا تحتاج إلى التعدّد المذكور، فمثلًا يمكننا أن نقول في المجال الإلهيّ إنّ الذات المقدّسة ملتذّة من ذاتها بذاتها وإن رجح بعض العلماء أن نعبّر في هذا المورد بالبهجة بدلًا من اللذّة. وكذلك الأمر في المجال الإنسانيّ، فإنه يمكن القول بأنّ الإنسان يلتذّ بوجوده، بل إنّ ذاته هي أحبّ الأشياء إليه، فإنّ اللذّة التي تحصل لديه من مشاهدة ذاته مع الالتفات لمطلوبيّتها هي أكبر من أيّ لذّة أُخرى، بل إنّ كلّ اللذّات الأخرى هي ظلالٌ من اللذّة التي تحصل لديه بوجوده؛ لأنّها تحصل على أساس الوصول إلى شأن من شؤونه، وكمال من كمالاته.
أمّا ما نراه من عدم الالتذاذ في الحالات المتعارفة، فهو على أساس عدم الالتفات. ومتى ما توجّه إلى ذاته بشكل كامل، وانصرف عن الأشياء الأُخرى على أثر العوامل الخارجيّة كالأخطار الكبرى، أو على أثر الرياضة النفسيّة وتمركز الإدراك، فإنّه ستحصل لديه لذّة غير عاديّة بلا ريب. فلو أنّه صدر حكمٌ بإعدام شخص، وبشكل قاطع لا يقبل النقض، ثمّ التفت إلى انتفاء الحكم، فإنه ستحصل لديه لذّة لا تقبل المقارنة إلى أيّ لذّة أخرى.
ومن الطبيعيّ أنّ اللذّة في هذا المثال، وإن كانت ترتبط بعودة الحياة الدنيويّة بعد اليأس منها، ولكنّها من زاوية توضيحها لشوق الإنسان إلى الحياة والالتذاذ بوجوده مفيدة لبحثنا هنا.
والحاصل، أنّ اللذّة التي تحصل لدى الإنسان إمّا أن تكون نابعة من وجوده، أو من كماله، أو من الموجودات التي يحتاج إليها ويرتبط بها بنحوٍ من أنحاء الارتباط الوجوديّ. فإذا استطاع أن ينظر إلى وجوده على أساس أنّه وجود تعلّقيّ يرتبط بموجود تنتهي إليه كل الارتباطات والتعلّقات؛ إذ يكون الارتباط به مغنيًا للإنسان عن أيّ شيء، فإنّه حينئذٍ سيحصل على أسمى اللذّات. وإذا نظر إلى وجوده على أنّه التعلّق نفسه به ولم يرَ له أيّ استقلاليّة عنه، فسوف تحصل لديه اللذّة الاستقلاليّة من ذلك الموجود. على هذا، فإنّ المطلوب الحقيقيّ للإنسان، والّذي يلتذّ منه أسمى اللذّات، هو موجود يقوم به وجود الإنسان؛ فيكون وجود الإنسان عين الربط والتعلّق به، وإنّ اللذّة الأصيلة تحصل له من مشاهدة ارتباطه به، أو مشاهدة نفسه حال كونها متعلّقة وقائمة به، أو هي في الحقيقة تحصل من مشاهدة إشعاع من جماله وجلاله تعالى.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان