ثمّة ثلاثة أقوال في مسألة تمكّن العقل من تصوّر الله عزّ وجلّ:
1ـ ذهب العرفاء إلى عدم إمكانيّة المعرفة العقليّة لله، لكنّهم في المقابل أيّدوا إمكانيّة المعرفة القلبيّة الشهوديّة، وأسبغوا على هذه المعرفة قيمة فائقة، فاعترضوا على من يريد أن (يتعلّم من كتاب العقل آية العشق)(1).
2ـ نفى آخرون كلّ معرفةٍ لله، وادّعوا أنّ تصوّر الله خارج عن قدرة الفكر البشريّ، لأنّ تصوّر أيّ شيءٍ هو لون من الإحاطة العلميّة به، فما يرد إلى الذهن البشريّ محدودٌ، والذات الإلهيّة لا يمكن الإحاطة بها، لأنّ ذاته مطلقةٌ غير محدودة.
من هنا، ذهب المعطّلة إلى أنّ المطلوب هو الاعتقاد المبهم كحال عامة الناس وأنكروا امكان معرفة ذات الباري.
ويؤيّد هؤلاء كلامهم ببعض ما ورد من النصوص الدينيّة:
يقول أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن)(2)، وفي خطبة أخرى: (وأنّك أنت الله الذي لم تتناهَ في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً)(3)، كما ورد في بعض النصوص: (احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار)(4).
3ـ وهناك جماعة من العلماء يقولون: إنّ ما طرحه المعطّلة، من عجز العقل البشريّ عن معرفة الله، غير صحيح، وقد فهم - المعطّلة - النصوص بشكل خاطئ، فإن ما تفيده هذه الروايات هو أنّ للإمكانات العقليّة البشريّة في معرفة الله حدوداً معيّنة لا يمكن تجاوزها وهو الصحيح.
ولذلك، يوجد في روايات المعصومين عليهم السلام توجيهاً للمسيرة العقليّة البشريّة، على خلاف ما يُدّعى من أنّها منعت العقل عن ورود هذا المعين، يقول أمير المؤمنين عليه السلام كما روي عنه: (لم يُطلع العقولَ على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته)(5).
بل نحن نرى أنّ عليّاً عليه السلام قد طرح أبحاثاً عميقة جدّاً وبطريقة استدلاليّة عقليّة وفلسفيّة في مجال الإلهيّات، أبحاثاً ليس لها سابق في تاريخ الفكر الفلسفيّ(6)، وقد لعبت وصاياه دوراً هامّاً في الاهتمام بالأبحاث الإلهيّة العقليّة وفي تطويرها.
فالنتيجة: صحيح أنّ العقول عاجزةٌ عن الوصول إلى كنه الباري عزّ وجلّ، إلا أنّنا نؤمن بأنّها تتمكّن من معرفته ضمن حدود معيّنة، بل ثمّة مقدار واجب من هذه المعرفة.
كيفيّة تصوّر الله:
ولتتمّة البحث، لا بدّ من التعرّض لكيفيّة تصوّرنا لله عزّ وجلّ عبر عقولنا:
لا يمكن أن يرد تصوّر الله إلى الذهن عن طريق الحواس، ذلك أنّ مدركاتنا الحسيّة محدودة ومقيّدة والله تعالى حقيقة مطلقة، لا تنسجم المحدوديّة مع ذاته(7)، فهل يمكن تصوّره؟
ثمّ ما السبيل إلى تصوّره مع عدم وجود مصداقٍ حسيٍّ له لنتخيّله ثم نتعقّله؟
إنّ تصوّر الله ليس من نوع الماهيّات التي يلزم أن يكون لها مصداقٌ حسيٌّ ليتسنّى تصوّرها، بل هو تصوّر لسلسلة من المعاني والمفاهيم (المعقولات الفلسفيّة الثانية)، والتي ينتزعها العقل مباشرة من الصور الحسيّة والخياليّة، ويكون تصورّه لها في الذهن كليّاً.
وهذا من قبيل تصوّر مفاهيم: الوجود، الوجوب، العلّيّة، القِدَم، مع فارقِ أنّ تصوّر الله يكون مركّباً من عدّة مفاهيم، وليس من نوع التصوّر لمفهوم واحد، فنتصوّر الله بعنوانٍ انتزاعيٍّ عامٍّ، كـ: واجب الوجود، خالق الكلّ، الكمال المطلق، العلّة الأولى، دون أن نستطيع تصوّر كنه ذاته.
والنتيجة أنّ العقل الفلسفيّ قادر على معرفة الله ضمن إطار المفاهيم العامّة بلا حاجة إلى مصداق حسيٍّ خارجيّ، ويستطيع أن يحكم على هذه المفاهيم، ممّا يؤسّس إلى علم معرفيّ برهانيّ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعبّر العرفاء عن الانجذاب الباطنيّ القلبيّ إلى الله، والذي هو طريق الفطرة إلى إثبات وجود الله، بـ: (العشق).
2 البلاغة/ الخطبة الأولى.
3 نهج البلاغة/ الخطبة 89.
4 تحف العقول - ص245.
5 م.ن./ الخطبة 49.
6 يمكن ملاحظة خطب نهج البلاغة الكثيرة التي تتحدّث عن التوحيد، وهي مليئة بمثل الأبحاث المذكورة.
7 كما أنّ الإدراكات الحسيّة من مقولة لا نعثر فيها على تصوّر الله.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان