ما هي أضرار الفقه الجدلي والمتفقّه الجدلي؟
يمكن ذكر مجموعة من الأضرار، أقتصر هنا منها على اثنين:
1 ـ التراجع العلمي، أو السَّير من الاستدلاليّة إلى الفوضويّة، بمعنى أنّ الفقه الجدلي مضلِّل؛ لأنّ السياقات الجدلية تعيد ترتيب وتنظيم العقل بطريقة تجعله يقتنع ـ أحياناً كثيرة ـ بأدلّة وهميّة، ولو أنّه لم يكن جدليّاً ولم يقع تحت التأثيرات النفسية والانتمائية للعقل الجدلي، لما اقتنع بهذه الأدلّة والحجج. وهذا يعني ظهور ركام من الاستدلالات والمناقشات العقيمة والهابطة على المستوى المنهجي والعلمي، فإذا تغلغل التفكير الجدلي في بنية الاجتهاد الفقهي أخرجه من "الاستدلاليّة" إلى "الفوضويّة".
وهذا هو السبب في أنّنا عندما نرصد بعض الموضوعات التي تُدرس على طريقة التفقّه الجدلي نجدها ركيكة في أدلّتها أحياناً كثيرة، بخلاف الموضوعات التي يتحرّك فيها الفقيه أو المتفقّه بطريقة مليئة بالحرّية وعدم الخوف من النتيجة مهما كانت. ويوماً ما قال أحد الأصدقاء الأفاضل، وهو يوصّف حال فقيهٍ معاصر يُشهَد له بالدقة والمتانة في الفقه والأصول، وكان تلمَّذَ على يديه لسنوات، قال: «"إنّ أستاذنا الفقيه هذا لما تناول قضايا فقهيّة لها صلة بأوضاع مذهبيّة، وجدناه كالبقّال الذي يبيع الطماطم في السوق، وكأنّه لا يفقه شيئاً مما سبق وعلّمه للأجيال". ورغم أنّ هذا التعبير غير لائق منه، غير أنّني أنقله لمجرّد توصيف الحالة التي لمسَها هذا الصديق.. أعني حالة التفاوت الكبير بين الفقيه نفسه وهو يبحث مسألةً لا تدخلها حساسيّات الجدل ومنطلقاته، وبينه وهو يبحث موضوعاً داخل نطاق الجدل المذهبي.
2 ـ الإغلاق الجزئي لباب الاجتهاد، فإنّ المتفقّه الجدلي يتصوّر أنّه بمناقشاته يُثري العمليّة البحثيّة، وهذا لا نشكّ فيه في الجملة، لكنّه من جهة أخرى يعطّل فتح باب الاجتهاد في دائرته التي ينتمي إليها؛ ولهذا فإنّ علم الفقه المقارن الجدلي يطوّر الفقه بين المذاهب، لكنّه يعطّل الاجتهاد الإبداعي في موضوعاته، داخل المذاهب نفسها. وأقصد من التعطيل وإغلاق باب الاجتهاد الحدَّ من ظهور الأفكار المخالفة في الدائرة التي يتناقش عليها الفقه المقارن، فمثلاً لو أخذنا مسألة مسح القدمين أو غسلهما في الوضوء، فإنّ الفقه المقارن الجدلي سوف يضاعف من أدلّة كلّ فريق لمصلحته، وهذا عنصر قوّة فيه، لكنّه في الوقت عينه سوف يمنع داخل الفريق السنّي ظهور قراءات مخالفة للسائد سنيّاً لمصلحة مسح القدمين، وسيمنع داخل الفريق الشيعي ظهور قراءات مخالفة للسائد شيعيّاً لمصلحة غسل القدمين، ولهذا عبّرتُ هنا بالإغلاق الجزئي، وهذا أحد أشكال الجزئيّة التي أعنيها.
الفقه والمتفقّه الجدلي، الأسباب ومبرّرات الوجود
هناك أسباب عدّة لظهور الفقه الجدلي أشير ـ على سبيل المثال ـ للخوف على الهويّة، فإنّه كلّما طال البحث الفقهي بالنقد والتمحيص قضايا تتعلّق بالهويّة الدينية أو المذهبيّة أو بالهويّة الاجتماعيّة أو نحو ذلك، تحرّكت مشاعر المتفقّه الجدلي، ويتراجع هذا الأمر كلّما تعرّض النقد لقضايا لا علاقة لها بالهويّة المأنوسة عبر التاريخ، فمثلاً لو أنّ فقيهاً اليوم طرح رأياً جديداً في مسألة كيفية تطهير مخرج البول، ففي العادة لن تكون هناك إثارة شعوريّة ولا خوف على الهويّة يستدعي نهضة معاكسة، بينما لو طرح قضيّةً تتصل بجواز طلاق المرأة نفسها من الرجل مطلقاً، فهذا يهدّد التركيبة الاجتماعيّة، أو طرح ـ بين الإماميّة ـ مسألة تتعلّق بجواز أكل لحم الأرنب، فهذا موضوع يصنّف كمَعْلَم من معالم الفقه الشيعي عبر التاريخ، فيثير الهويّة وقلقها. إلى غير ذلك من الأمثلة.
وإلى جانب الخوف على الهويّة هناك الانصياع للسائد والمأنوس، فعندما يُرَوَّض الإنسان على الانصياع لكلّ مأنوس سائد ومتعارف، فإنّه سوف يتحوّل إلى إنسان جدلي في قراءته للقضايا التي لا تنسجم مع المألوف والسائد في محيطه؛ وبخاصّة وأنّ الإنسان بطبعه يبحث عن الأمان في ظلّ محيط اجتماعي متوالم معه، فالشعور بالوحشة يُقلقه؛ لهذا فهو يفضّل الانصياع للمألوف هرباً ـ في اللاشعور ـ من معاناة الفراق والوحشة، ويبرّر انصياعه هذا بخلق نظريّات وأفكار، وتبدأ رحلة الجدل. وهنا نجد الكثيرين ممّن يطبّقون عمليّاً قاعدة: «الوقوف على التلّ أسلم»، لكنّ التلَّ هنا هو تلّ المشهور والإجماع والأعراف الاجتماعيّة وغير ذلك.
وهكذا العواطف والأحساسيس والمشاعر، فالمجتمعات الذكوريّة ـ مثلاً ـ يصعب عليها جدّاً أن تتقبّل أفكاراً تهزّ من هذه الذكوريّة وتخدشها، لهذا فهي تفضّل التضييق على المرأة أو إبقاء سلطة الرجل مطلقةً وسلطة المرأة في غاية التقييد، وكلّ شيء يمسّ ذلك يسمّى بالخدش بالحياء العام أو تدمير الأسرة أو نشر الفساد والفاحشة وغير ذلك، وتبدأ رحلة الجدل وخلق التبريرات والمفاهيم الوهميّة. ذلك كلّه والجدلي يدّعي أنّه يبحث عن الحقيقة ويدافع عن القيم والشرف والفضيلة.
توضيحٌ ودعوة
وأختم كلامي المختصر هذا بأمرين: توضيح ودعوة
أمّا التوضيح، فهو أنّ المتفقّه الجدلي لا يقتصر على المتفقّه الجدلي الكلاسيكي، بل لدينا متفقّهون جدليّون تجديديّون كُثر، فهؤلاء أيضاً يقعون ضحايا لطريقة التفكير نفسها، فهو يحكم على الرأي الفقهي قبل بحثه، فيُعجبه أو لا يُعجبه، ثم يبحث ليُثبت ما يُعجبه أو لينفي ما لا يعجبه! أو ليُثبت ما يقول به رمزٌ من رموز مدرسته أو لينفي ما يقول به رموز مدارس أخرى في الفقه!
وأمّا الدعوة، فهي لتحييد التفكير الفقهي الجدلي من حياتنا، لإعادة الفقه الاستدلالي إلى موقعه في كلّ زوايا الفقه، بعيداً عن القلق والخوف والاضطراب والارتباك والعصبيّة والاصطفافات الزائفة، والله وليّ التوفيق.
لهذا يختلف الاستدلاليُّ الحقيقي عن الجدلي
من كلّ ما تقدّم يتضح جيداً أن المتفقّه أو الفقيه الاستدلالي الحقيقي يختلف تماماً عن الفقيه الجدلي في النتائج البحثيّة، فمن المتوقّع منه أن يخالف السائد في مجالات متعدّدة، بعكس الفقيه الجدلي الذي تكون نسبة موافقته للسائد عالية.
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)
الأمّة المستخلفة
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (1)