لعلّ أكثر ما امتاز به عصر التّنوير في الغرب، أنّه وضع أمام مفكّريه وفلاسفته خيار القطيعة الصارمة بين العقل والخرافة. في ذلك الوقت كانت المجادلات الفكرية والفلسفية مركوزة ضمن دائرة حسم هذه الثنائيّة لمصلحة العقل. وكانت الحجة البالغة لدى هؤلاء، أنّ حاكمية العقل هي الشرط التاريخي الذي لا مناص منه لإطلاق حركة العلم والتّصنيع ودورة رأس المال.
التّسويغ الثقافي والإيديولوجي الذي تقاطعت حوله أفكار التنويريين، هو قلب ما كان شائعًا في مجتمعات القرون الوسطى، وتحويله إلى نصابٍ آخر. فقد جاءت الحصيلة المعرفية للحداثة، لتبيَّن أنّ الإنسان هو مركز الكون، بعدما احتلّته الخرافة والميتافيزيقا الدينية.
ولكي نستظهر الصّورة الـمُجْملة على حقيقتها، لنا أن ننطلق من وقائع القرن الثامن عشر في أوروبا، وهو القرن المعروف بعصر النهوض في الثقافة الفرنسية، وعصر التّنوير في نظيرتها الإنجليزية.
على أنّ اتّجاه هذا العصر نحو العلم، ومن خلال الاعتماد الصارم على العقل في معرفة أسرار الكون الفيزيائي، وقوانين التاريخ السياسي والاجتماعي، هو من مفضياتِ الثورة العلميّة في القرن السابع عشر. ذلك ما ظهر مع «نيوتن» في ما عُرِف بالتّفسير العقلاني العلمي للعالم، وهو الأمر الذي حفّز الفكر الاجتماعي على إطلاق طموحه ليُحَقّق ما حقّقه «نيوتن» في ميدان الطبيعة.
لكن الثّقة بقدرة العقل على فهم قوانين الكون الطبيعي، تلازمت مع ثقة موازية بقدرته على فهم حركة التاريخ، وقوانين التغيير التي تحكمها. وعلى ذلك يمكننا أن نلحظ كيف كان هذا العصر، هو نفسه عصر الفكر الذي انبثقت منه الإيديولوجية الليبرالية، التي شرَّع لها «مونتسكيو» على صعيد الفكر السياسي. وهذا الأخير - على ما نعرف - هو المشرّع الذي يُنظر إليه بوصفه والد الإيديولوجيا العقلانية الليبرالية، في بعديها السياسي والدستوري.
بل ثمّة من مضى إلى أن «مونتسكيو» تخطّى العلاّمة ابن خلدون باقتراحه النّظام اللاّزم لقوننة الحريّة، والحؤول في الآن عينه، دون استشراء الاستبداد. وهذا الاقتراح هو عين المبدأ القائل بفصل السّلطات، باعتبار أنّ توحيد مركز السُّلطَة سوف يؤدي بالضّرورة إلى واحدية المنظومة السياسية الحاكِمة.
لم يدُم الانخطاف طويلًا بدهشة التّنوير؛ فالعقل الذي اتّخذ سبيله لرعاية النّظام العام للدّولة والمجتمع، سوف يتّخذ سبيلاً معاكسًا بعد وقتٍ قصير. فلقد بانَ بوضوح، ولا سيما بعد ظهور الدولة القومية، وسعيها إلى تمديد سيادتها خارج أرضها، أنّ اللاّعقلانية في الغرب الحديث، طفقت تحتلُّ المواقع الأساسية في عقل الدولة والمجتمع.
ففي السّنين الأولى للقرن العشرين، وتحديدًا في العام 1920، عمّت التّشاؤميّة في حقول الفكر والثّقافة والفلسفة، لتعكس ظاهرة معرفيّة مفارقة في الغرب الأوروبي. ففيما كانت النّخب في العالم الإسلامي مأخوذة بسحر الحداثة وأنوارها، جاءتها عواصف مفاجئة من جغرافيات الحداثة نفسها، لتهتز معها طائفة وازنة من العناوين التي دأبت على الأخذ بها كسبيل هادٍ لإنجاز حداثتها.
لقد جاءت عواصف النقد لتشير إلى رجوع العقل في الغرب إلى سيرته الغابرة، ثمّ ليستأنف مأزقه على نشأة أخرى. فلئن كانت الخرافة قد تراجعت أمام سطوة الحداثة، فإنّ هذه الأخيرة ستتعرَّض لضرباتٍ شديدة الإيلام، من جانب تيارات فلسفية عبَّرت عن نفسها بما يشبه الاحتجاج العبثي على باب الحداثة المسدود.
نستطيع أن نرى إلى هذا التّحوّل من خلال ما قدّمه نقاد التنوير من بيانات متشائمة. فلمّا أعلن هؤلاء أنّ الحضارة الغربيّة انبنت على استراتيجية متفسَّخة، فقد ابتغوا بذلك الإشهار الصريح لأنّ تلك الحضارة آلت إلى سحق غرائز الإنسان الحيويّة، من خلال السيطرة على الطبيعة، وعلى الذّات، وعلى الآخرين.
قبل بضعة عقود، كان للمفكر المعروف هربرت ماركوز، رؤية ثاقبة في تشكيل صورة دراميّة للمجتمع الصناعي الغربي. لقد تحدّث يومها عن مقولة الإنسان ذي البعد الواحد، الذي أنتجه مجتمعه ذو البعد الواحد. فقد لاحظ أنّ الإنسان في هذا المجتمع فَقَدَ «حقّه» في الحياة، بمجرّد أن سلّم للمجتمع مقاليد أمره.
فهو توهّم أنّه يعيش الحريّة، فيما هو يغرق في استلاب سحيق لا قاع له. وفي اعتقاده أنه إذا كان المجتمع يحرص على تلبية هذه الحاجات الـمُصطنعة، فليس ذلك لأنها شرط استمراره ونمو انتاجيّته فحسب، بل أيضًا لأنها خير وسيلة لاستيلاد الإنسان المسلوب.
ذاك القابل بالمجتمع «الواحدي» والـمُتكيّف معه. فالإنسان ذو البُعد الواحد بهذه المعايير، هو الذي استغنى عن الحريّة بوهم الحريّة. فلو ظنّ (هذا الإنسان) أنّه حرٌّ لـمُجرَّد أنه يستطيع أن يختار حاجاته من بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات، فما أشبهُهُ من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهّم أنّه حرٌّ لـمُجرّد أنْ مُنِحَت له حريّة اختيار سادته (...). والمجتمع الصناعي ـ في رأي ماركوز ـ لم يُزيّف حاجات الإنسان الماديّة فحسب، بل زيَّف أيضًا حاجاته الفكريّة، أي عقله وفكره بالذّات.
ذاك أنّ العقل الذي يتأمّل ويتفكّر هو في واقع حاله، عدوٌّ لدود لمجتمع السيطرة، لأنّه يمثل قوّة العقل النقديّة، السالبة، التي تتحرّك دومًا في اتجاه ما يجب أن يكون، لا نحو ما هو كائن. وهذه القوّة هي في خاتمة المطاف قوّة إيديولوجيّة، راحت سُلطة الحداثة تُوظّفها لخدمة إمبرياليتها الصّاعدة.
ولئن كان المجتمع الليبرالي، ثم الما بعد ليبرالي، قد أحاط الإيديولوجيا بالازدراء والتّحقير باسم عقلانيّته التّكنولوجيّة، أو بذريعة النظر إلى الحقائق بزعم أنّها تتبدّى له كضوء الشمس، فذلك لا يعني أنّه لم تَعُد هناك إيديولوجيا، أو أنها أوشكت على أن تواجه موتها المحتوم.
لدى نقّاد الحداثة، ولدينا أيضًا، أنّ المدنيّة التّقنيّة وهي في ذروة جنونها، باتت هي الإيديولوجيا بعينها. ولقد تبيّن من خلال ما شهدته أطوار القرن العشرين الـمُنصرم، أن أبرز وجوهها من هذه الزّاوية، هو المذهب العملي في الفيزياء، والمذهب السّلوكي في العلوم الاجتماعيّة، وصولاً إلى المذهب البراغماتي في حقول الاستراتيجيّات السياسية والاقتصادية. وإلى ذلك على الجملة، سوف نجد أن السّمة المشتركة الأساسية لتلك المذاهب، هي الالتزام بالواقع الـمُعْطَى، ونبذ المفاهيم الشموليّة أو النّقدية التي تُهدَّد بالكشف عن بُعد آخر لذلك الواقع.
أما الصورة الآن، فلا تُفْصِح إلاّ عن جرعة يسيرة ممّا منحه لنا ميراثُ العقل. ولنا أنْ نقول إنّ منطق التّحوّلات الذي افتتحته الحداثة الغربية منذ بداية القرن العشرين وإلى بداية زمن العولمة، لم يُسفِر إلاّ عن إدخال الإنسان في لجّة غير آمنة.
أما كارثة التّحرُّر التي تحدّث عنها نقّاد الحداثة المعاصرة، خصوصًا بعد أفول البريق الإيديولوجي للشيوعية.. فهي تلك التي راحت تدفع العالم إلى فضاء اللاّعقلانية، بوسائط شديدة العقلانيّة. وهنا تكمُن على نحو خاص قوّة الـمُجتمع العولمي ذي البُعد الواحد: أي الطابع العقلاني للاعقلانيته. بحيث ذهب هذا النّوع من «المجتمع العولمي»، إلى تسويق ما عُرف بـ«الفكر الإيجابي» الذي يُمَهَّد لسيرورة مديدة من الامتثال والإذعان وعدم الاحتجاج. ذلك أن القبول بمثل هذا النوع من «الإيجابية»، هو قبول قسري لا بحكم الإرهاب، وإنّما بفعل سلطة المجتمع التكنو- إلكتروني وفعاليّته السّاحقة.
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)