علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

سمات العقيدة الإسلاميّة

إنّ للعقيدة الإسلاميّة سمات نذكر منها ما يلي:

 

سهولة العقيدة

للعقيدة الإسلامية صفات متعدّدة، منها: سهولة فهمِها وتعلّمها، لأنّها عقيدة شاملة لا تختص بالفلاسفة والمتكلّمين والمفكِّرين، إلاّ أنّ ذلك لا يعني سذاجتها وابتذالها وعدم خضوعها للبراهين العقلية، بل يعني أنها في متانتها ورصانتها وخضوعها للبراهين والأدلة، بعيدة عن الألغاز والإبهامات، فلو فُسّرت وبُيّنت لفهمها عامة الناس حسب مستوياتهم، فهي بهذه الصفة تخالف ما تتبنّاه نصرانية اليوم والأمس، التي أحاطت بها إبهامات في العقيدة وألغاز في الدين، بحيث لم يتيسّر لأحد لحدّ الآن حلُ مشاكلها وألغازها، فالمسلم مثلاً إذا سئل عن عقيدته في التوحيد، وعن صفات الله تعالى يقول: (هُوَ اللهُ أَحَد، اللهُ الصَمَد، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد).

وقد جاء في الأثر أنّ جماعة من أهل الكتاب سألوا النبي (صلى الله عليه وآله) وقالوا: انسب لنا ربّك، فنزلت سورة التوحيد(1).

فالعقيدة الإسلامية في هذا المجال واضحة المفاهيم، جليّة المعالم، لا يكسوها إبهام ولا يسترها لغز، فيخرج المسلم في مقام الوصف وتبيين العقيدة مرفوع الرأس، فللعقيدة براهينها الواضحة، التي يمكن أن يقف عليها كل من درسها.

وأمّا لو سُئل النصراني عن ذلك، فإنه يتلعثم في بيان عقيدته، فتارةً يقول: إنّه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، ثمّ يضيف أنه لا منافاة بين كون الشيء واحداً وكثيراً.

ومن المعلوم أنّ هذه العقيدة بهذا الإبهام والإجمال لا تقبلها الطباع السليمة، إذ كيف تُذْعِن بأنه سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل ولا ندّ، ولكنه مع ذلك له أنداد ثلاثة وأمثال متعدّدة، فهذه العقيدة تناقض أولها آخرَها ويردّ آخرُها أوّلها، فهو سبحانه إمّا واحد لا نظير له وإمّا كثير له أمثال.

وقِسْ على ذلك سائر المواضيع في العقيدة الإسلامية وقابِلْها مع ما تقول سائر الشرائع فيها، ترى تلك الصفة بنفسها في العقيدة الإسلامية ونقيضها في غيرها.

إنّ من العوامل التي ساعدت على سرعة انتشار الإسلام في مختلف الحضارات وتغلغلها بين الأوساط، اتصافها بسهولة العقيدة ويُسر التكليف.

يقول الأستاذ الشيخ محمّد محمّد المدني:

يقول الله عزّ وجلّ في حثّ العباد على التفكّر في خلقه وآثاره وما له من تصريف وتدبير: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لأولِي الألْبَابِ)، (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ)، (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقِ ، (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنَعِهِ)، (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا)، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ).

ويقول الله عزّ وجلّ في وصف نفسه وإعلام المخلوقين بأنه فوق ما يعقلون أو يدركون: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحْد)، (وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنِّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم * ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيل * لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

فالقرآن الكريم لم يأت لنا أبداً بشيء يُفصِحُ عن ذات الله تعالى من حيث الحقيقة والكُنْه، وإنّما هو يُلفِتُ دائماً إلى آثار الله في الخلق والتصريف(2).

 

الإذعان في العقيدة والتعبّد في الأحكام

وهناك أمرٌ ثان نلفت إليه نظر القارئ، وهو الفرق الواضح بين العقيدة والأحكام الشرعية العملية، فإنّ المطلوب في الأولى هو الاعتقاد الجازم، ومن المعلوم أنّ الإذعان بشيء متوقّف على ثبوت مقدّمات بديهية أو نظرية منتهية إليها حتى يستتبعها اليقين والإذعان، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية، فإنّ المطلوب فيها هو العمل وتطبيقها في مجالات الحياة، ولا تتوقّف على القطع بصدورها عن الشارع، وهذا الفرق بين العقائد والأحكام يجرّنا إلى التأكّد من صحة الدليل وإتقانه أو ضعفه وبطلانه في مجال العقائد أكثر من الأحكام، ولذلك نرى أئمة الفقه يعملون بأخبار الآحاد في مجال الأحكام والفروع العملية ولا يشترطون إفادتها القطعَ أو اليقينَ، وهذا بخلاف العقائد التي يُفترض فيها اطمئنان القلب ورسوخ الفكرة في القلب والنفس، فيرفضون خبر الآحاد في ذلك المجال ويشترطون تواتر النص أو استفاضته إلى حدٍّ يورث العلم.

 

خضوعها للبرهان العقلي

وهناك أمر ثالث وراء هذين الأمرين، وهو أنه لا يمكن لأيّ باحث إسلامي أن يرفض العقل ويكتفي بالنص إذا أراد أن يعتمد الأسلوب العلمي في مجال العقيدة، لأنّ الأخذ بالنص متوقف على ثبوت أصول موضوعية مسبقة تتبنّى نبوّة الرسول الأكرم وحجيّة قوله، فما لم يثبت للعالم صانع حكيم، قد بعث الأنبياء والرسل بالمعجزات والبيّنات لهداية الناس، لا تثبت نبوّة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وحجيّة كلامه في مجال العقيدة، ولا يمكن أن نعتمد على النصوص وسنّة الرسول في إثبات الصانع ونبوّة رسوله.

وهذا هو الذي يفرض علينا أن نستجيب للعقل، باعتباره العمود الفقري للعقائد التي يبنى عليها صَرح النبوّة المحمديّة (صلى الله عليه وآله)، ولذلك نرى أنّ الكتاب العزيز يثبت هذا الأصل من الأصول بدلالة العقل وإرشاده، فيستدلّ على أصول التوحيد بمنطق العقل، ويتكلّم باسم العقل ويقول: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء/22)، فيستدل على توحيده ونفي الألهة المتعدّدة بقضية شرطية، وهي ترتب الفساد في حالة تعدد الإلهة.

ويقول سبحانه: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون/91).

ويقول سبحانه: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغُوا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء/42).

فالآيات الثلاث على اختلافها في الإجمال والتفصيل تستبطن برهاناً مشرقاً خالداً على جبين الدهر.

ويقول سبحانه: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور/35) فيعتمد على الفطرة في إبطال وجود الممكن وتحققه بلا علّة وصانع.

كما نرى أتقن البراهين وأوضحها في إبطال ربوبيّة الأجرام السماوية من خلال محاجة إبراهيم الخليل (عليه السلام) مع عبدتها، فيستدل بالأفول على بطلان ربوبيتها ضمن آيات، قال سبحانه: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَلْيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/75-79).

فقد بلغ الخليل النهاية في مجال المعرفة على وجه رأى ملكوت السماوات والأرض، فأراه سبحانه ملكوتهما، أي كونهما قائمين بالله سبحانه، وما ذلك إلاّ ليكون موقناً ومذعناً لأصول التوحيد، وما أراه ملكوت السماوات والأرض إلاّ بإلهامه البرهانَ الدامغ الذي أثبت به بطلان ربوبيّة الكوكب والقمر والشمس، وانتهى في آخره إلى أنّه لا إله إلاّ هو، وقال بعد ذكر البراهين (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/79).

فهذه الآيات ونظائرها تكشف عن أصل موضوعي في الشريعة اإاسلامية وهو أنّ الغاية من طرح الأصول العقائدية للإذعان بها والوصول إلى اليقين، لا التعبّد بها دون يقين، وهذا يفرض علينا أن نفتح مسامعنا لنداء العقل ودعوته، خصوصاً في الأصول الأولية التي تُبنى عليها نبوّة النبي الأكرم. فمن حاول تعطيل العقل وأبعده عن ساحة البحث واكتفى بالنص، فقد لعب بورق خاسر، إذ أنّ بديهة العقل تحكم أنّ الاكتفاء بالسمع في عامة الأصول مستلزم للدور، وتوقّف صحة الدليل على ثبوت المدعى وبالعكس.

إنّ رفض العقل في مجال البرهنة على العقيدة ـ من قبل بعض الفرق ـ صار سبباً لتغلغل العقائد الخرافية بين كثير من الطوائف الإسلامية، وفي ظلّ هذا الأصل، أي إبعاد العقل، دخلت أخبار التجسيم والتشبيه في الصحاح والمسانيد عن طريق الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا اليهودية والنصرانية وخدعوا عقول المسلمين فحشروا عقائدهم الخرافية بين المحدّثين والسُذَّج من الناس اغتراراً بإسلامهم وصدق لهجتهم.

إنّ من مواهبه سبحانه أنه أنار مصباح العقل في كلّ قرن وزمان ليكون حصناً أمام نفوذ الخرافات والأوهام، وليميّز به الإنسان الحقَ عن الباطل فيما له فيه حق القضاء، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ المرجع الوحيد في العقيدة هو العقل دون الشرع، وإنّما يهدف إلى أنّ اللبنات الأولية لصرح العقيدة الإسلامية تجب أن تكون خاضعة للبرهان، ولا تناقض حكم العقل.

وعندما تثبت الأصول الموضوعية في مجال العقيدة وتثبت في ظلها نبوّة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، يكون كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) حجة في العقائد والأحكام، لكن بشرط الاطمئنان بصدورها عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وقد خرجنا في هذه المقدّمة الموجزة بثلاث نتائج:

الأولى: أنّ العقيدة الإسلامية عقيدة سهلة يمكن اعتناقها بيُسر دون تكلّف.

الثانية: أنّ المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب، وهذا لا يحصل إلاّ بعد ثبوت المقدّمات المنتهية إليه، وليس من شأن أخبار الآحاد خلق اليقين والإذعان ما لم يثبت صدورها عن مصدر الوحي على وجه القطع واليقين، بخلاف الأحكام، فإنّ المطلوب فيها هو العمل تعبّداً.

الثالثة: أنّ الأصول التي تبنى عليها ثبوت النبوّة لا تثبت إلاّ بالعقل دون الشرع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1).. الطبرسي، مجمع البيان 5: 564.

(2). القاهرة، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، مجلة رسالة الإسلام، العدد 49: 50-51.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد