علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

الوحي عند فلاسفة الغرب

إنّ فلاسفة أوروبا بعد أن عادوا الی الاعتراف بوجود شخصیّة باطنة للإنسان، تسمّی بالروح، وعلموا أنّها هي التي کوّنت جسمه فی الرحم وهي التي تحرّك جمیع عضلاته وأعضائه التي لیست تحت إرادته کالکبد والقلب والمعدة وغیرها، فهو إنسان بها لا بهذه الشخصیّة العادیّة.. عادوا یعترفون أیضًا بالوحي، الوحي الذی یدّعیه الأنبیاء مل‌ء کتبهم النازلة المنسوبة إلى السماء.

ولکن فسّروه تفسیرًا یختلف عمّا قرّره علماء الدین الإسلامي- بأنّه إلقاء من خارج الوجود إمّا قذفًا فی قلب أو قرعًا فی سمع-.

قالوا: الوحي عبارة عن إلهامات روحیّة تنبعث من داخل الوجود، أي الروح الواعیة هي اليی تعطینا تلکم الإلهامات الطیّبة الفجائیّة فی ظروف حرجة، وهي التي تنفث فی روع الأنبیاء ما یعتبرونه وحیًا من اللّه، وقد تظهر نفس تلك الروح المتقبّعة وراء جسمهم، متجسّدة خارجًا فیحسبونها من ملائکة اللّه هبطت علیهم من السماء، وما هي إلّا تجلّي شخصیّتهم الباطنة، فتعلّمهم ما لم یکونوا یعلمونه من قبل، وتهدیهم إلى خیر الطرق لهدایة أنفسهم وترقیة أمتهم ولیس بنزول ملك من السماء لیلقي علیهم کلامًا من عند اللّه.

هذا ما یراه العلم الأوروبي التجریبي الحدیث فی مسألة الوحي.

 

ودلیلهم علی ذلك: أنّ اللّه أجلّ وأعلى من أن یقابله بشر أو یتصل به مخلوق، وأنّ الملائکة مهما قیل في روحانیّتهم وتجرّدهم عن المادّة فلا یعقل أنهم یقابلون اللّه أو یستمعون إلى کلامه، لأنّ هذا کلّه یقتضي تحیّزًا في جانبه تعالى، ویستدعي عدم التنزیه المطلق اللائق بشأنه جلّ شأنه. ولأنّ الملائکة مهما ارتقوا فلا یکونون أعلى من الروح الإنسانية التي هي من روح اللّه نفسه، فمثلهم ومثلها سواء.

وبهذه النظریّة حاولوا حلّ ما عسی أن یصادفوه في بعض الکتب السماویّة من أنواع المعارف المناقضة للعلم الصحیح طبیعیًّا وإلهیًّا. فهم لا یقولون بأنّ تلك الکتب قد حرّفت عن أصلها الصحیح النازل من عند اللّه، ولکنّهم یقولون بأنّ الشخصیّة الباطنة لکلّ رسول إنّما تؤتي صاحبها بالمعلومات علی قدر درجة تجلّیها وعبقریّتها، وعلى قدر استعداده لقبول آثارها ومن ثم قد تختلط معارفها العالیة بمعارف باطلة آتیة من قبل شخصیّته العادیّة، فیقع في الوحي خلط کثیر بین الغثّ والسمین، فتری بجانب الأصول العالیة التي لم یعرفها البشر إلى ذلك الحین، أصولًا أخری عامیّة اصطلح علیها الناس إلى ذلك الزمان.

وبعد: فإذا ما أخضعتهم الحقیقة العلمیّة، على طریقة تجریبیّة قاطعة، بأنّ وجود الإنسان الحقیقي هو شخصیّته الثانیة القابعة وراء هذا الجسد، وأنّه یبقى خالدًا بعد فناء الجسد، فما عساهم امتنعوا من الاعتراف بحقیقة الوحي کما هي عند المسلمین؟! لا شك أنّ ما وصلوا إلیه خطوة کبیرة نحو الواقعیّة، لا نزال نقدّرها تقدیرًا علمیًّا، لکنّها بلا موجب توقّفت أثناء المسیر ودون أن تنتهي الى الشوط الأخیر.

إنّ منار العلم وضوء الحقیقة قد هدیاهم إلى الدرب اللائح، وکادوا یلمسون الحقیقة مکشوفة بعیان، فوجدوا وراء هذا العالم عالـمًا آخر ملیئًا بالعقول. ووجدوا من واقع الإنسان شخصیّة أخری وراء شخصیّته الظاهرة: فهاتان مقدّمتان أذعنوا لهما، وقد أشرفتا بهم على الاستنتاج الصحیح وصاروا منه قاب قوسین أو أدنى، لکنهم بلا موجب توقّفوا، وأنکروا حقیقة کانوا علی وشك لمسها.

 

فعلى ضوء هاتین المقدّمتین، لا مبرّر لعدم فهم حقیقة اتّصال روحي خفي یتحقّق بین ملأ أعلی وجانب روحانیّة هذا الإنسان. فیتلقّی بروحه إفاضات تأتیه من ملکوت السماء وإشراقات نوریّة تشعّ علی نفسه من عالم وراء هذا العالم المادي. ولیس اتصالًا أو تقاربًا مکانیًّا لکي یستلزم تحیّزًا، في جانبه تعالى. وأظنّهم قاسوا من أمور ذاك العالم غیر المادي بمقاییس تخصّ العالم المادي. مع العلم أنّ الألفاظ هي التي تکون قاصرة عن أداء الواقع، وأنّ التعبیر بنزول الوحي أو الملك تعبیر مجازي، ولیس سوی إشراق وإفاضة قدسیّة ملکوتیّة یجدها النبي (علیه السلام) حاضرة نفسه، ملقاة علیه من خارج روحه الکریمة، ولیست منبعثة من داخل کیانه هو.

هذا هو حقیقة الوحي الذی نعترف به، من غیر أن یقتضي تحیّزًا في ذاته تعالى. أمّا التعلیل الذی یعلّلون به ظاهرة الوحي، فهو في واقعه إنکار للوحی وتکذیب ملتو للأنبیاء بصورة عامّة، کما هم فسّروا معجزة إبراء الأکمه والأبرص بظاهرة الهبنوتوزم (المغناطیسیّة الحیوانیّة) فجعلوا من المسیح (علیه السلام) إنسانًا مشعوذًا- حاشاه- یستغلّ من عقول البسطاء مجالًا متسعًا لترویج دعوته، بأسالیب خدّاعة ینسبها الى البارئ تعالى ...!

ونحن نقدّس ساحة الأنبیاء من أي مراوغة أو احتیال مسلکي، وحاشاهم من ذلك. وما هی إلّا واقعیّة بنوا علیها دعوتهم الإصلاحیّة العامّة، واقعیّة یعترف بها العلم سواء في مراحله القدیمة أو الجدیدة الحاضرة. إذن لا مبرّر لتأویل ما جاء في کتب الأنبیاء من ظاهرة الوحي، اتصالًا حقیقیًّا بمبدإٍ أعلى.

نعم: إنّ ما بقي بأیدي الناس من تراجم کتب منسوبة إلى الأنبیاء السالفین، لم تبق سالمة من تطاول أیدي المحرّفین، ومن ثمّ ففیها من الغثّ والسمین الشيء الکثیر، ونحن نربأ بعلماء محقّقین أن یجعلوا من موضوع دراستهم لشؤون الأنبیاء (علیهم السلام) تلکم التراجم المحرّفة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد