علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

بحثًا عن التجرّد.. بحثًا عن الرّوح

النزاع القائم بين الماديين والإلهيين باعتبار أنّ الإلهي يؤمن بما وراء المحسوس نزاع قديم قدم الفلسفة. اعتبر الإلهيون أنّ إثبات تجرد النفس التي يمكن أن يُطلق عليها عنوان الروح أمرٌ أساسي لإثبات أهم الحقائق الوجودية كالخالق المطلق والمعاد. وحين بدأ البحث اعتبر الكثيرون منهم أنّ المجرد هو ما يقابل الجسد المحسوس.

 نجد آثار هذا النزاع الذي يُتهم به الفلاسفة بالانحراف عن الدين في بحث المعاد الجسماني والروحاني. المتكلمون الطاعنون بالفلسفة يعتبرون الفلاسفة مخالفون لضرورات الدين المنصوص عليها في القرآن الحكيم وفيما لا يُحصى من الأحاديث التي تؤكد على أنّ حشر الناس ومعادهم جسماني حيث الحديث عن اليد والرجل والأذن والعين والفرج والجلد وبعث الأجساد من القبور. 

إنّ إصرار بعض المتكلمين على المعاد الجسماني لا ينحصر في إطار الدفاع عن النص الديني المتواتر والواضح الجلي، بل لانصراف الأذهان إلى كون المعاد الروحاني أشبه برجوع النفس بصورة بخارية أو دخانية لا تنطوي على الكثير من المتعة واللذة الموعودة. ولو علم هؤلاء أنّ المقصود بالروح هو الموجود الأشد والأكثف لما أتعبوا أنفسهم في صراع اجتذب ردودًا غير مفيدة من الطرف الآخر.

حين نتحدث عن الروح فإننا نتحدث عن شيء إذا قورن بالجسد وكل العالم المادي فإنه يكون أقوى وأكمل وأكثف وأشد ظهورًا. وبالمقارنة نحن هنا أمام قطن وحديد من حيث الصلابة والكثافة والشدة، مع فارق كبير بالطبع. وما يجعل الروح غير مرئية من هذه الجهة لقوة وجودها لا لبخاريتها وغازيتها. هنا أيضًا ينفعنا مثال الأصوات العالية جدًّا التي لا يمكن للأذن العادية أن تسمعها كما هو ثابت في الفيزياء.

الروح لا تقابل المادة بل هي أعلى منها وأقوى وأشد وأكثف. ولذلك فإنّ العديد من قيود المادة ونقائصها لا يكون في عالم الروح، ومنها الحدود المكانية والزمانية. فما جعل المحسوسات المادية محدودة في إطار الزمان والمكان هو ضعفها الوجودي. وحين ننعتق من حدود الزمان والمكان فسوف نكون مع عالم ووجود أشد ظهورًا وتمتعًا بالوجود نفسه.

 

لا ينبغي أن نتعب أنفسنا بإثبات التجرد للماديين. فليكن هذا نصيبهم من عالم الوجود. إن أرادوا أن يحرموا أنفسهم من قوى وإمكانات أعظم وأكثر، فلماذا نصر على إقناعهم بالمجرد؟ فليس العالم المجرد سوى إضافات لا حصر لها ولا حد من حيث الإمكانات والفرص والقوى.

 

التجرد ليس بالأمر الذي ينبغي أن نؤمن به بقدر ما ينبغي أن نعيشه. وحين يتمكن المؤمنون بالمجردات والتجرد من تفعيل قواهم الروحية المجردة فسوف يتفوقون بسهولة على الماديين ويهزمونهم كما ينبغي في ساحة الحياة والواقع وليس في عالم النقاش والجدال. 

 

إن الأمر هنا يشبه امتلاك سلاح سري متطور. فهل يهمك أن يكتشفه عدوك ويتعرف عليه؟! استخدم هذا السلاح لقهر هذا المادي، فربما يثوب إلى رشده ويبدأ رحلة البحث عما وراء المحسوس والملموس. وإذا لم يؤمن بعد ذلك، فهو ليس سوى من المعاندين الذين لا ينبغي تضييع الوقت في جداله.

 

إنّ الإيمان بالله تعالى لا يستلزم إثبات التجرد، لأن وجود الله أشد وأعظم وأوسع وأعمق من وجود المادي. ولهذا، فإنه لا يكفر به سوى كل معتد أثيم. المعاندون يوهموننا أحيانًا بأنّ مشكلتهم معنا هي في الاعتقاد وفي إدراك الحقيقة حتى نضيع وقتنا في جدالهم. إنّ قوة حضور الله أشد بكثير من نقاشنا ومن سعينا لإثباته. والحديث عن الله ينبغي أن يكون استحضارًا لعظمته وطريقًا إلى كبت وبهتان المعاندين الذين يجحدون مثل هذه الحقيقة الكبرى التي هي أم الحقائق كلها.

 

إنّ الحديث عن المجرد والروحي والله والمعاد هو حديث عن حقائق يُفترض أن تترك أعظم الأثر في واقع المؤمنين بها. ومثل هذا الأثر هو أقوى حجة وبيان، ولا يحتاج بعده طالب الحقيقة إلى دليل وبرهان. 

 

المؤمنون بالمجرد الذين يتصورونه شيئًا مقابلًا للمادي وفق ما درجوا على سماعه في دروس العقيدة دون أدنى تفكير، يسعون جهدهم لإثبات شيء لا يعرفونه. والدخول في مباحث التجرد تضييع. بل إن مصطلح المجرد نفسه يحمل معه بعض الالتباس، لأنه يجعل ما هو أعظم تابعًا لما هو أدنى وأحقر. إنّ تصورنا للمادي باعتبار أنه أول ما نتصوره والانطلاق منه نحو اكتشاف ما فوقه هو الذي يجعلنا نظن أنه الطريق الوحيد لإثبات المجرد. لقد نسينا في غمرة ذلك أن الذين يعيشون الحياة المجردة كفيلون بإثبات الحقائق العليا دون الحاجة إلى سلوك هذا الطريق. لقد كنا محجوبين، ومن الطبيعي أن نتصور أن الآخرين سيطوون هذا الطريق كذلك. لكن في الواقع، إنّ وصولنا إلى التجرد ولو ببعض درجاته من خلال استعماله ومعايشته ومعاينته في حياتنا قد أضحى كفيلًا بهداية المحجوبين الآخرين.

 

هدى الله أنبياءه إلى عالم الغيب وتكلم معهم بالوحي لتكون سيرتهم وحياتهم وشخصيتهم وكلامهم ترجمة صادقة قوية لهذا العالم العظيم، فلا يحتاج الناس بعدها إلى سلوك الطرق الوعرة للوصول.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد