علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

تحوُّلات الفلسفي الديني في التجربة الغربية، روجيه غارودي أنموذجاً

إشكاليات التحوُّل

يبيّن الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ، في مقالته: "ضرورة إصلاح الفلسفة"، "أن عصور الإنسانية لا تتميز إلا بتغيُّرات دينية، ولا تكون الحركة التاريخية أساسية إلا إذا كانت جذورها متأصلة في قلوب البشر"...

وسنلاحظ، استطراداً، أن فيورباخ لم يرَ إلى القلب إلا بوصفه المكان الأخير للمعرفة. وإلى النَّظر إليه، ليس بوصفه صورة من صُوَر الدين، وإنما بوصفه جوهر الدين وعينه.

ربما علينا اقتفاء أثر هذا الكلام الفلسفي في معرض الحديث عن المفكر الفرنسي روجيه غارودي، وتحولاته الفكرية، وتقلّبات أحواله.

علَّةُ الأمر، أنك إزاء شخصية عاشت المنعطفات ومساحات الانتقال بشغف نادر. وفي كل منعطف كان عليها أن تَعْبُر إلى الضفة الأخرى، وهي في ذروة الرغبة لملء فراغ ما ذهبت بعيداً في مغامرة السؤال عما وراء الظلمة. ربما لتبدّد قليلاً من كثافة الشك، أو لأنها وجدت نفسها، في كل مرة، بحاجة إلى شحنة إضافية من اليقين لتستريح إليه وتطمئن.

لقد وقع روجيه غارودي، منذ البداية، في مشقَّة السؤال الفلسفي، فكان يعلم أن نهايات العصور تثير دوماً شعوراً بالرهبة، كما يقول لوي آراغون. لكنه آثر ولوج قسوتها حتى يتحصَّل عبر الألم ما يستحيل عبر سواه.

 

تبتدئ إشكاليات التحوُّل عند غارودي من سؤال الدين. وسيبدو لنا، لو تتبّعنا المنطق الداخلي لسيرورة التحول، أن الدين ظل حاضراً بنسب مختلفة، متباينة في شخصيته، فلم تكن دراساته العليا في الفلسفة واللاهوت والسياسة مجرّد كونها تحصيلاً أكاديمياً. فها هي تؤتي آثارها بميله إلى التبصُّر الوجودي في كل ما يحيط به. ولذلك فغالباً ما حسم أمره وخياراته الفكرية والمسلكية بمناخ راديكالية مشهودة.

في 1940، اعتقلته حكومة فيشي الموالية لهتلر، واحتجزته ثلاث سنوات في معسكر للاعتقال في الجزائر، إلا أن قسوة النازية ومناخاتها الضاغطة دفعته نحو قلب الحياة السياسية الواعدة بإرهاصات مدوّية. بعد الحرب العالمية الثانية، لم يَرُق له اللامنتمي. ولا أخذه الهبوط إلى العدمية واللايقين، فإذا به يعد الماركسية جواباً على خواء ما بعد الحرب. وينتخب نائباً في الجمعية الوطنية الفرنسية ثم نائباً لرئيسها العام. ثم عضواً في مجلس الشيوخ، ثم يصبح عضواً فاعلاً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي وأحد أهم منظِّريه الأيديولوجيين.

لكن الشخصية "المهجوسة" بالاستفهام والشك لم تلبث أن واجهت في الحزب أبواباً موصدة. فإذا حل العام 1970، طُرد من القيادة الحزبية بسبب انتقاده الشديد لسياسة الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية. ومنذ ذلك التاريخ حتى إشهار إسلامه، عام 1982، راح يكرّس جهده الفكري ومخزونه المعرفي للمزيد من البحث في الأسئلة المتوالدة كسيلٍ عارم.

 

الدِّيني بوصفه اختباراً ذاتياً

ظل غارودي يرنو إلى اللامتناهي في كل فكرة يتلقاها. هكذا كانت الماركسية بالنسبة إليه؛ كينونة فلسفية أيديولوجية، ذات سحر ميتافيزيقي، وهي لو اكتفت بالاقتصاد والسياسة ما كان له منها، على الأرجح، هذه الكمية من الشغف. وجد فيها البعد الآخر لذات الإنسان، حين يغادر استلابه نحو ملكوت الحرية، وحيث يترقى المجتمع البشري إلى مقامات يصير فيها الإنسان/ الفرد متحِّققاً في ذاته، ويصبح في الشيوعية سيد الكينونة، بعد أن خرج من زمن التملك وعبوديته.

هذا البعد اللامتناهي في الماركسية لم يصمد طويلاً أمام أسئلة غارودي. فإذا المتناهي السياسي المحكوم بأوليغارشية الحزب وديكتاتورية البروليتاريا يلتهم اللامتناهي في بعديه الفلسفي والميتافيزيقي. وما كان على تلك الشخصية القلقة حيئنذ إلا أن تبحث عن جذر اللامتناهي، أي عن مصدره الديني على الخصوص.

ذهب غارودي إلى هيغل بوصفه ممراً إجبارياً لمراجعة البعد الميتافزيقي للماركسية. فهذه الأخيرة تأسست على منجزات الهيغلية الفلسفية، علماً بأن فعاليتها النقدية قد وفّرت لها أدوات معرفية ثورية لتجاوز جملة من مفاهيم هيغل، ولا سيما مفاهيمه حول الدين والإيمان والعقل. ثم أخذ يعمل كما لو أنه يعيد الاعتبار لمثاليات هيغل في علاقة الله بالإنسان.

يقول غارودي: في كتابه: "فكر هيغل"، "إن الله، من وجهة نظر الروح الذاتي، لا يمكن أن يكون متعالياً خارج الوعي الإنساني، إنه ليس موجوداً، وليس حياً إلا فيه".

 

لقد اختلف شرَّاح هيغل في نظرته إلى الدين. وسنرى كيف يرى ميور Mure أن هيغل يقدم لنا نظرة صوفية، وأن المشكلة التي تواجهه هي مشكلة وحدة الإنسان والله، وهي الوحدة التي نادى بها كل من: يعقوب بوهمه والسيد إيكهارت، الذي قال: "العين التي يراني بها الله هي العين التي أراه بها، وإن عيننا عين واحدة، وإذا لم يوجد الله فإنني سوف لا أوجد، وإذا لم أوجد فلن يوجد الله". ومقابل هذا التفسير، فإن جان هيبوليت Hippolité يرفض القول: إن هيغل كان صوفياً، لأن الروح الكلي لا يتجلى في الأفراد، بل في الشعوب، ويرى أنه لا يقدم لنا كذلك نظرة أنتروبولوجية لاهوتية. وهذا ما يقول به فندلي Fnidly أيضاً، وعلى العكس من ذلك فإننا نجد كوسييف ومعه غارودي يقدمان تأويلاً إنسانياً يخلص إلى أن الموضوع الحقيقي للفكر الديني عند هيغل هو الإنسان نفسه.

الدين، عند هيغل، أعلى صورة من صور الوعي بالذات. وهو من عوامل تأصيل الإنسان وتثبيته على الأرض لأن الدين مقره "القلب"، رمز كل ما هو حي عند هيغل، وتحويل الدين إلى لاهوت جامد يعني تحويل نظر الإنسان عن الأرض إلى السماء؛ حيث عالم "الماوراء"، بحيث يصبح عاملاً من عوامل اغتراب الإنسان وشقائه. لقد ظهر هذا الاغتراب بشكل واضح في صفحتين بقيتا مما كتبه هيغل حين يقول: "إن كل ما هو سام وجميل، في الطبيعة البشرية، قام هؤلاء المسيحيون البورجوازيون الضعفاء بنقله بأنفسهم خارج أنفسهم، فوضعوه في ذلك الفرد الغريب، ولم يستبقوا لأنفسهم سوى كل ما هو حقير ودنيء فيهم: وما قد انتزعه المسيحيون من أنفسهم وأسقطوه على شخص المسيح، بدأنا نفهم أنه عملنا. وعلى ذلك فمن الطبيعي أن يرى هيغل أن قهر هذا النوع من الاغتراب لن يتم إلا باستعادة الإنسان لصفاته، وعلى الخصوص الحرية وامتلاك نفسه من جديد، لذلك قال في ما بعد: "ما على جيلنا إلا أن يضطلع بمهمة جمع الكنوز التي بعثرها أسلافنا لحساب السماء".

 

وكان واضحاً أن يستعيد غارودي هيغل استعادة ميتافيزيقية ذات منحى صوفي. وهذا أمر بديهي طالما أن قيمة الفيلسوف الألماني تمكث في هذا المقام المعرفي بالذات. والذي يبدو صارخاً في ماديته في النص الهيغلي ما هو إلا توكيد الألوهية من خلال تمجيد الجوهر الإنساني. وهو ما تذهب الصوفية إليه حين تسعى إلى تأليه الإنسان عبر الاتصاف بصفات الله تحقيقاً للإنسان الكامل، أو الإنسان الأعلى. فالدين عند هيغل يجب ألا يقتصر على العقائد الجامدة، ولا يجوز تعلمه من الكتب، ولا يجب أن يكون لاهوتياً"، بل بالأحرى أن يكون قوة حيَّة تزدهر في الحياة الواقعية للشعب، أي في عاداته وتقاليده وأعماله واحتفالاته، يجب أن يكون الدين أخروياً (متعلقاً فقط بالآخرة) بل دنيوياً إنسانياً، وعليه أن يمجِّد الفرح والحياة الأرضية، لا الألم والعذاب وجحيم الحياة الأخرى.

 

مراجعات في ما هو موضع شك

إن عودة غارودي إلى هيغل لم تكن لأجل التزوُّد بمفاهيم سبق وكانت موضوعات خلاف بين الفلاسفة، وإنما لاستبطان روح هيغل التي لا ترى إلى الدين إلاَّ باعتباره وظيفة أبدية للروح الإنساني". ولئن كان لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينياً كما يقرِّر برديائيف Berdyaev، فإن يقظة غارودي مصدرها الإسلام بامتياز. هذه قضية يقررها هو نفسه، عندما يقرأ تجربته الذاتية وتحوّلاته، فيرى إلى الإسلام بوصفه خلاصة للإيمان البشري القائم على الحرية والوعي والمعرفة. وعلى كونه "يختصر جميع الحكم والرسالات والأديان السابقة المعبِّرة عن التسامي الإلهي والإنساني. لذلك وجد فيه ملاذه الفكري بعد تقلبات فكرية ونفسية صاخبة بين الإلحاد والإيمان، وبين الشك واليقين، وبين مسيحية بروتستانتية متحررة وليبرالية يسارية، ثم بين التزام فكري وعملي بالماركسية، وعودة جديدة إلى الدين، الدين بوصفه إيماناً جوهرياً وليس بوصفه نصوصاً وطقوساً محددة. وقاده ذلك إلى أخذ الإسلام بجوهره الفكري الصوفي، مع ميل خاص إلى تصوُّف الشيخ محيي الدين بن عربي وفلسفته".

لم يقتصر ذهاب غارودي إلى هيغل فقط لأجل التفقُّه بما احتجب عليه من أبعاد إلهية في أثناء علاقته بالماركسية. كانت المراجعة شاملة، لا سيما عند النقطة المتصلة بالدين. فلم يكن بعيداً عن فيورباخ الذي مَنَحَ الثنائي ماركس وإنجلر فسحة وفيرة للمناظرة والجدال. وبهذا المعنى كان فيورباخ هو الثاني بعد هيغل الذي يؤلف المادة الفكرية الفلسفية للماركسية، ثم لم يكن من قبيل التمجيد أن يصف إنجلز غاية فيورباخ تجاه الدين بالقول: "إنها الوصول بالدين إلى أسمى درجات الكمال"…

 

في المراحل الأولى من الثمانينات، اكتملت لدى غارودي وسائط الانتقال إلى اليقين المعرفي بالدين. ولسوف يصل إلى اعتناق الإسلام ليس فقط عن طريق الاستطلاع الاستشراقي كما قد يحلو لبعضهم أن يقول. وإنما أيضاً، وبصفة خاصة، عند طريق الاختبار الذاتي. وما كان ثمة، من طريق له سوى الطريق الصوفي. فالصوفية بحسب غارودي هي البعد الداخلي للإسلام (...) والتصوُّف هو اللحظة التي يدرك الإنسان فيها أن الله نفخ فيه من روحه. ويقرأ غارودي من نصوص الصوفية ما يؤيد تعظيمه لها باعتبارها الطريق الحقيقي لمعرفة الله والذات. وها هو يذكر على لسان الجنيد "التصوُّف هو الله يميتك لتبعث فيه". وعلى لسان أبي يزيد البسطامي قوله: "عندما تمّحي الأنا يصبح الله مرآة نفسه فيّ". وعن الصوفي الكبير "أبي سعيد" أن أحد تلاميذه سأله: "تكلّمنا دائماً عن إبليس، فما هو إبليس هذا؟ أجابه أبو سعيد: إنني أعرفه جيداً، لقد التقيت به وقال لي: "إذا قلت "أنا" تصبح شبيهاً بي"..

وفي ما يعكس وعياً بالصوفية لا مجرّد "انئخاذ" عفوي بجاذبيتها، يبيّن غارودي "أن التصوف هو لحظة ضرورية ليبقى الإسلام إسلاماً حياً معيشاً من الداخل، خلاَّقاً، وليس إسلاماً متحجِّراً في الشوق إلى الماضي، وفي الشروح، وشرح الشروح، وفي الحرفية، والتكرار وفي الشكلية القاطعة والمدّعية، والمكتفية التي تجعله يدخل المستقبل متقهقراً"..

 

تديُّن الفلاسفة

تمنحنا نصوص غارودي عن الإسلام متَّسعاً للكلام عن تديُّن من نوع خاص. في "الإسلام الحي" أو "الإسلام" أو "الأصوليات المعاصرة" أو "وعود الإسلام" الخ.. سنقع على مشهد معرفي عميق بالإسلام. وسيتبيّن لنا إلى أي حدٍّ كانت خطوة الالتزام الديني نتيجة فعاليات معرفية متراكمة وحصيلة اختبار ذاتي شكلت أساساً لعملية التحول. تفضي النصوص والمؤلفات بسيرورة تفكير جدالي عمد غارودي، في خلالها، إلى إجراء مقاربات ومقارنات بين الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية، والإسلامية، ثم ليردّها إلى مصدر واحد هو التوحيد. كأنما أراد أن يفصح عن رغبة في القول بضرورة وجود دين عالمي يشكل الإسلام إطاره الأشمل. ثم لم يكتف بالأديان السماوية بل ذهب بعيداً في البحث عما في البوذية والديانات الهندية والآسيوية الأخرى من عناصر توحيدية. وصولاً إلى النقطة التي يتجلى الله فيها بوصفه خالقاً أوحد. إن الشمولية التي شاءها غارودي في النظر إلى الدين أدت إلى إنشاء لغة توائم بين الناس والأشياء تواؤماً وجودياً ضمن الدَّائرة الخلاقة لوحدة الوجود. إن غارودي هنا هو مثل من سبقه من الفلاسفة الباحثين في ما وراء الحواس. لقد كان هنري برغسون وشوبنهور يقولان بعدم وجود انفصال حقيقي بين ماهيات الكائنات، حتى أن الذي يعرف ذاته باطنياً، يعرف، كذلك، باطنية كل شيء..

وبحسب برغسون أنه حينما يريد باحث في أشياء ما وراء الطبيعة، أن ينفذ إلى الحقيقة، وإلى المطلق، بقطع النظر عما تتطلبه الأشياء العلمية، لا بد له من أن يتخطى مناهج التحليل التي تجمّد كل شيء، وأن "يصرف الفهم إلى حين" لأن مهمة هذا الفهم تنحصر بما هو عملي، وأن يتخذ سبيلاً آخر إن هو أراد أن يرى الحقيقة وجهاً لوجه.

 

إن هذا ما يعنيه برغسون بالحدس. هذه القوة التي تشبه من بعض الوجود ما يسميه الفيلسوف مين دي بيران قوة اللمح الباطني المباشر، ويشبه أيضاً، هذا الاختبار الباطني الذي يستطيع به عقلنا كما يؤكد لنا شوبنهور أن يتخطى النسبي ويبلغ المطلق بوصفه إرادة. حتى أن برغسون في مؤلفاته الأولى كان لا يزال يستعمل تعبير مين دي ميران ولم يكن الحدس، حتى آنذاك، في كتابه "معطيات الوجدان البديهية"، سوى "اللمح البديهي أو اللمح الباطني". إن الحدس البرغسوني الذي لم ينأ عنه غارودي في تشكيل مادته المعرفية لا يقتصر فعلاً، على وجدان الفرد الشخصي، بل يتحول إلى "انجذاب ذهني"، وهو انجذاب إلهي يفتح لنا آفاقاً على داخلية الآخر، كما أننا نتمكن بهذه الطريقة أن ننفذ إلى قلب الأشياء لكي نطابق ما فيها من خصوصي صرف لا يمكن التعبير عنه، بل يصار إليه بنوع من الاستقصاء الميتافيزيقي.. وهو الاستقصاء الذي يوحي "بما في هذا الشيء من جوهري وخاص"..

 

هل دخل غارودي في رحلة مجاهدة بحسب الاصطلاح الصوفي حتى وصل إلى التديُّن القلبي؟

لقد اختار هذا السبيل، من دون أدنى شك، ولذا فمن البديهي أن يكون تديُّنه تديناً من طراز مختلف، فلا هو تديُّن المستشرق الباحث عن الإسلام التاريخي التدويني ولا هو تديُّن المسيحي الغربي الذاهب إلى الإسلام بعدما استغلق عليه فهم المسيحية بنتيجة انفصالها عن الدولة والمجتمع، فصارت بمثابة نص طقسي وحسب. إنما هو تديُّن الفيلسوف، المتفكر، الذي قالته الكلمات بعد ارتحال مضنٍ في آلامها وأسرارها ومصادرها العصية على الحصر.

بهذا استطاع غارودي أن يجتاز المقطع الأول في رحلة الشك، ليلج حالة من الأمان الذهني عصمته من خطر العودة مرة ثانية إلى الخواء. وهي الحالة التي قَبَضَ فيها على تلك الفسحة المجهولة التي تفصل بين المبادرة المتَّخذة والنتيجة المرغوب فيها. فهو إذ بادر إلى الإسلام لم يشأ البقاء على سطوحه وظاهره، فسنجده إذ ذاك يستبطن جوهره، الذي هو جوهر الدين بما هو طريق التأله الوحيد. لقد اختار الدِّين الديناميكي- على حد تعبير هنري برغسون - والأخلاق المفتوحة، ولم يختر الدَّين الساكن والأخلاق المغلقة. ذاك أنه في مثل هذه الحال سيكون كمن يقوم بمجرد ردة فعل ضد ما يمكنه أن يكون انحطاطاً للفرد وتفسخاً للمجتمع في ممارسة الفهم؛ الأمر الذي تشهد البيئات المملوءة بالضَّجر والسأم واللاانتماء في حقبة ما من هزيمتها أو انحدارها.

 

إن هذا التديُّن المتحرك، الخلاَّق، هو الذي جعل غارودي، كسواه من المفكرين والفلاسفة يتجه نحو طريق المجاهدة والتأمل والاستبطان، وهو تديُّن ظهر عند كبار الصوفيين، أمثال القديسة تيريزا دافيلا والقديس فرنسوا داسيز وباسكال وسواهم. فجميعهم يعبرون التعبير نفسه عن اختبارهم الصوفي الحدسي المباشر. وجميعهم يشعرون بالاتصال بهذا المجهود الذي يسميه برغسون "المجهود والخلاق الذي تبديه لنا الحياة". وهذا المجهود الذي "هو من الله، إن لم يكن هو الله نفسه، وجميعهم تعتريهم رعشة حب متحمس. هذا الحب الذي يضني المتصوف ليس فقط حب إنسان الله، بل حب الله لجميع الناس".

إن هذا هو الذي يتجلى في عالمية الحب عند غارودي. وفي حماسته العظمى للسلام وحقوق الإنسان.

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد