علمٌ وفكر

العقل النظري هو المدرك للفضائل والرذائل

الشيخ محمد مهدي النراقي

 

اعلم أن كل واحد من العقل العملي والعقل النظري رئيس مطلق من وجه، أما "الأول" فمن حيث أن استعمال جميع القوى حتى العاقلة على النحو الأصلح موكول إليه، وأما  الثاني" فمن حيث أن السعادة القصوى وغاية الغايات أعني التحلي بحقائق الموجودات مستندة إليه، وأيضًا إدراك ما هو الخير والصلاح من شأنه فهو المرشد والدليل للعقل العملي في تصرفاته.

 

وقيل: إن إدراك فضائل الأعمال ورذائلها من شأن العقل العملي، كما صرح به الشيخ في الشفاء بقوله: "إن كمال العقل العملي استنباط الآراء الكلية في الفضائل والرذائل من الأعمال على وجه الابتناء على المشهورات المطابقة في الواقع للبرهان، وتحقيق ذلك البرهان متعلق بكمال القوة النظرية".

 

والحق أن مطلق الإدراك والإرشاد إنما هو من العقل النظري فهو بمنزلة المشير الناصح، والعقل العملي بمنزلة المنفذ الممضي لإشاراته وما ينفذ فيه الإشارة فهو قوة الغضب والشهوة.

 

دفع الإشكال في تقسيم الحكمة

إن قيل: إن القوم قسموا الحكمة أولاً إلى النظرية والعملية، ثم قسموا العملية إلى ثلاثة أقسام: واحد منها علم الأخلاق المشتمل على الفضائل الأربع (الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة)، التي إحداها الحكمة، فيلزم أن تكون الحكمة قسمًا من نفسها.

 

قلنا: الحكمة التي هي المقسم هو العلم بأعيان الموجودات، سواء كانت لموجودات إلهية أي واقعة بقدرة الباري سبحانه، أو موجودات إنسانية أي واقعة بقدرتنا واختيارنا، ولما كان هذا العلم أعني الحكمة التي هي المقسم قسمًا من الموجودات بالمعنى الثاني، فلا بأس بالبحث عنه في علم الأخلاق، فإن غاية ما يلزم أن تكون الحكمة موضوعًا لمسألة هي جزؤها بأن يجعل عنوانًا فيها ويحمل عليها كونها ملكة محمودة، أو طريق اكتسابها كذا.

 

وبالجملة لا مانع من أن يجعل علم يبحث فيه عن أحوال الموجودات موضوعًا لمسألة، ويبحث عنه فيه بإثبات صفة له لأجل أنه أيضًا من الموجودات كما إنه في العلم الأعلى الذي يبحث فيه عن الموجودات من حيث وجودها، يبحث عن نفس العلم لكونه من الموجودات، ويجعل موضوعًا لمسألة من مسائله، ولا يلزم من هذا كون الشئ جزءًا لنفسه. وأيضًا نقول كما أن الحكمة العملية قسم من مطلق الحكمة لتعلق العمل بالنظر، فكذا المطلق قسم منها لتعلق النظر بالعمل، وحينئذ كما أن العدالة من الحكمة باعتبار فكذا الحكمة من العدالة باعتبار آخر، فتختلف الحيثية ولا يلزم محذور.

 

وقيل: في الجواب أن المراد من الحكمة التي هي إحدى الفضائل الأربع استعمال العقل على الوجه الأصلح، وحينئذ فلا يرد إشكال أصلاً لعدم كون الحكمة بهذا المعنى عين المقسم لأنها جزء له. وفيه أن الحكمة بهذا المعنى هي العدالة على ما تقرر، مع أن العدالة أيضًا إحدى الفضائل الأربع.

 

تنبيه

قد صرح علماء الأخلاق بأن صاحب الفضائل الأربع لا يستحق المدح ما لم تتعد فضائلها إلى الغير، ولذا لا يسمى صاحب ملكة السخاء بدون البذل سخيًّا بل منفاقًا، ولا صاحب ملكة الشجاعة بدون ظهور آثارها شجاعًا بل غيورًا، ولا صاحب ملكة الحكمة بدونها حكيمًا بل مستبصرًا.

 

والظاهر أن المراد باستحقاق المدح هو حكم العقل بوجوب المدح، فإن من تعدى أثره يرجى نفعه، ويخاف ضره، فيحكم العقل بلزوم مدحه جلبًا للنفع، أو دفعًا للضرر، وأما من لا يرجى خيره وشره فلا يحكم العقل بوجوب مدحه وإن بلغ في الكمال ما بلغ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد