إنّ علم الأشخاص بالغيب الإلهيّ بإذنه تعالى لا يعني أنّهم أنفسهم صاروا عالمين بالغيب في مقابل ذات الحقّ، فيكون ذلك مغايراً للتوحيد، بل يعني أنّه عين علمه الذي ظهر فيهم حقيقةً. وهذا هو عين التوحيد. وأنّ الله لا يعطي الغير مستقلًّا مثقال حبّة من خردل من علمه اللامتناهي، ولا يمكن أن يعطيه، لأنّ هذا العطاء يستلزم نقصان علمه اللامتناهي، بل نقصان ذاته، تعالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ. أمّا العطاء غير المستقل، فلا ينافي التوحيد، بل هو التوحيد نفسه.
إن العطاء غير المستقلّ يعني الظهور والتجليّ والإشعاع والتألّق كالشمس التي تبسط نورها وأشعّتها في العالم، وتنشر ضوءها في كلّ مكان وعلى كلّ كائن اعتباراً من الذرّة حتى الدُّرّة، ومن البسيطة إلى الأفلاك والمجرّات. وكلٌّ يأخذ منها النور والحرارة فينشأ وينمو بمقدار سعته وحجم ما يستوعبه وجوده، بَيْدَ أنّ النور لا ينفصل عن الشمس، كما أنّها لا تظلّ مشعّة إلى الأبد على الموجودات والكائنات التي تعطيها ضوءها. فما دامت الشمس في كبد السماء، فإنّها تضيء الأشياء، ولا تهب الأشياء النور، بل لها إشعاع ذو طابع إعاريّ مؤقّت. وإذا ما حان الليل، وغاب منبع النور تحت الأفق، فإنّه يأخذ معه التألّق والنور والظهور، ويترك الأشياء خالية من نوره.
وما ضرّ هذه الشمس التي لا تفصل النور عن نفسها، ولا ينقص نورها في نطاق ذاتها وفعلها أنّ تمنح النور بمقدار ذرّة، أو تمنحه فيشمل جميع عوالم الطبيعة والفضاء غير المرئيّ والكواكب التي لا حدّ ولا حصر لها؟ فالشمس ليست بخيلة، وهي تمنح الجميع نورها، وتلقي شعاعها، وتبسطه بكلّ سخاء. بَيْدَ أنّ كلّ شيء من الأشياء يأخذ نصيبه منها حسب استعداده، فالذرّة تنال حظّها بمقدار صغرها، وهكذا بقيّة الأشياء كالجبل، والصحراء، والسهل، والبحر، والمحيط، والفضاء الواسع، فكلّ واحد من هذه الأشياء يأخذ نصيبه بما يتمتّع به من استيعاب، وقابليّة، واستعداد.
ويجري علم الله جلّ شأنه على هذا النسق. فالكائنات مرايا وأوعية لتجلّي علم ذاته وتألّقه، وهو تعالى غير ضنين أن يمنّ على الآخرين بعلومه في طابع الظهور واللمعان، سواء كان شعوريّاً، بأن يمنّ بها على ذبابة، أم علميّاً بأن يمنّ بها على الناس العاديّين والجنّ والملائكة والحيوانات أم علميّاً أيضاً، فيفيض بها من خزانته الخاصّة على الإمام والرسول. وإذا ما أطلع أولئك على علم الغيب، وغيب الغيب، والسرّ، والسرّ المستور، والسرّ المستسرّ، والخزائن المخفيّة التي لا تصل إليها يد البشر والملائكة، فهو أمر اعتياديّ، ولا ينقص من كبريائه وعظمته حتى بمقدار سمّ الخياط، بل إنّ ذلك هو عين كبريائه وعظمته وجماله المطلق، إذ يجعل كائناً من الكائنات في عوالم الإمكان مرآة لظهور جميع صفاته.
الإمام مرآة وآية واسم. غاية الأمر أنّه مرآة تامّة لظهور صفات الباري، ومن مفردات هذه المرآة التامّة علم الباري. (وَلِلَّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). «1»
إنّ جميع الكائنات في عالم الطبيعة سواء كانت جماداً أم حيواناً أم إنساناً تتّصف بالوحدة على الرغم من الاختلاف الملحوظ بين أفرادها. وبغضّ النظر عن خصوصيّات الزمان والمكان وسائر العوارض والأعراض المؤدّية إلى تميّزها وتفرّدها وتحقّقها الخارجيّ، فإنّ ذلك الأمر الوحدانيّ موجود. وأنّ كافّة هؤلاء الأشخاص المختلفين يوجدون، وينمون ويقطعون الطريق في مسير تكاملهم بواسطة ذلك الأمر الوحدانيّ المشترك بين الجميع.
وذلك الأمر الوحدانيّ المنبعث من عالم الأمر والملكوت هو الذي عبّر عنه الشرع المقدّس بمَلَك التدبير، وعبّرت عنه الفلسفة بالـمُثُلِ الأفلَاطُونِيَّةِ. وبرهن عليه المرحوم الملّا صدرا الشيرازيّ أعلى الله مقامه الشريف في أسفاره الأربعة، وذكرناه نحن أيضاً في المجلس السابع عشر الوارد في الجزء الثالث من كتاب «معرفة المعاد» الصادر ضمن سلسلة دورة العلوم والمعارف الإسلاميّة، وأثبتنا هناك أنّ العلوم التي يظفر بها البشر - في ضوء النظريّة الإسلاميّة - إنّما تتحقّق بواسطة ملائكة العل . وكلّ من كان له علم، فهو يُفاض عليه عبر مَلَكِ العلم، حتى يبلغ العلم الكلّيّ للحقّ تعالى الذي يُمنَح بواسطة جبرائيل والروح.
وكلّ إنسان يزيد علمه، يخضع لملك أقوى وأعلى حتى يبلغ درجة يُوكَّل فيها جبرائيل على علومه، والأعلى من ذلك أنّ الروح الأمين، ومقامه واحد، ودرجته أعلى من درجة جميع الملائكة المقرّبين يمسك زمام أموره. وأنّ الرسل والأئمّة الذين يعلمون الغيب يزوَّدُونَ من قبل جبرائيل الأمين، وبعضهم يُزَوَّدُ من قبل الروح الأمين.
إنّ الاستثناء الوارد في الآية: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) «2» يشمل كافّة الأقسام الخاصّة بتبليغ رسالة الرسول. أي : أنّ الله يربط قلب رسوله المرضيّ عنده بالغيب في كلّ ما يتوقّف عليه إبلاغ رسالته، سواء كان ذلك متن رسالته، كالمعارف الاعتقاديّة والشريعة والأحكام والقصص والاعتبارات والمواعظ والحكم، أم كان من آيات رسالته وأشراطها، أم من المعجزات الدالّة على صدقه.
كما نقرأ في القرآن الكريم أنّ الله تعالى يصف الكلام الغيبيّ الذي قاله نبيّه صالح لقومه بقوله: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا في دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ). «3»
ونقرأ كلام عيسى ابن مريم على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام الذي قاله لليهود وبني إسرائيل: (وَانَبِّئُكُم بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ إنَّ في ذَلِكَ لأيةً لَّكُمْ). «4» (لا يعلم أحد بما تأكلون وما تدّخرون غيركم).
وما ورد في القرآن الكريم من مواعيد الأنبياء بالملاحم والإخبار بالغيب، وقد وقع ذلك كلّه، كوعيد نوح بحدوث الطوفان، وإنذار هود، وشعيب، ولوط بوقوع العذاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). الآية 180، من السورة 7: الأعراف.
(2). الجن: 27.
(3). الآية 65، من السورة 11: هود.
(4). الآية 49، من السورة 3: آل عمران.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ علي المشكيني
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد هادي معرفة
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان