ومن هنا تبدو العلاقة أكثر وضوحاً بين البلوراليّة والليبراليّة Liberalism بما تحمله الأخيرة من مضامين الحرّية والوصوليّة السلميّة و... - وإن كان مفهوم الليبرالية في رأي العديد من الباحثين في حد ذاته غير منقّحٍ بدقّة «1» - فإنّ كلا الاتجاهين يفضيان إلى مصبّ واحد يشتركان فيه من قبيل الحريّة الاعتقاديّة والسياسيّة والتعايش السلمي بما يحمله من معاني التساهل والتسامح حيث فسّرت البلورالية فيما فسّرت فيه - كما في معجم أكسفورد «2» - بأنّها اتجاه يدعو إلى تحمّل الآخرين والصبر على وجودهم وإبراز التساهل والتسامح معهم، وإن كان هذا المعنى ليس بالمعنى الوحيد للبلورالية، وكأنّه تفسير لها بأبرز مظاهرها والذي يرجع في الحقيقة إلى التّساهل والتسامح Tolerance والذي تمثّل التعددية الأرضيّة الفكريّة له «3».
ومن هنا أيضاً تظهر العلاقة الجدليّة بين البلورالية وأصالة الإنسان Humanism والتي تجعل الإنسان نفسه المحور والمركز بدلًا من جعله يدور في فلك الحقيقة، فإنّ التعددية - بما تتضمّنه من اعتراف وقبول بالكثرة وبما توليها من اهتمام ورعاية وأولويّة - تقدّم أصالة الإنسان على أصالة الفكر وتجعل الإنسانيّة ملاكاً ومعياراً بدلًا من جعلها قيمة الحقّانية معياراً وميزاناً في رسم التّرابط والارتباط الإنساني أو جعلها الدّين أو الله «4» هو المدار والمحور.
وربما يكون البعض باعتباره أصالة الإنسان القاعدة الفلسفيّة التي يشيّد عليها مذهب التعددية قد ترقّى أكثر ليعتبر وفقاً لذلك أنّ الدّين لديها لا بدّ أن يكون إنسانيّاً بدلًا من مقولة أن الإنسان لا بدّ أن يكون دينيّاً.
ولعلّ تتلمذ الذين دافعوا عن التعدّدية في الفترة الأخيرة في الجمهورية الإسلاميّة في إيران على يد أحد أقطاب الاتجاه الإنساني وهو المفكّر الغربي المعروف كارل ريموند پوپر K . R poopor يخرج عن كونه محض مصادفة وفقاً لما تقدّم. وهناك من يرى أنّ العلمانيّة تعدّ واحدة من إفرازات التعدّدية «5»، إلّا أنّ هذه الدعوى بحاجة إلى مزيد من التأمّل والتدقيق، فمن الممكن أن يكون مآل النظريّتين إلى مرجعيّةٍ واحدةٍ، أمّا رجوع إحداهما إلى الأخرى فهو غير واضح، والأدلّة المبرزة في هذا الصدد لا تؤكّد هذه المقولة.
الانحصاريّة والشموليّة الدينيّة
من الضروري هنا توضيح بعض النظريّات التي لها ترابط ما مع التعدّدية الدينيّة وهي نظريّة الانحصاريّة الدينيّة ونظريّة الشموليّة الدينيّة.
أ - الانحصاريّة الدينيّة: وهي المذهب السائد فعلًا على مستوى أديان العالم والذي كانت له الكلمة الفصل في القرون بل الألفيّات الماضية. إنّه يرى أنّ الحقيقة والخلاص وكذلك النجاة والسعادة الدنيوية والأخرويّة موجودتان في دينٍ واحدٍ فقط لا غير. ولعلّ كلماتٍ من قبيل "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" «6» في الإسلام، أو من قبيل "لا أحد يمكنه أن يصل إلى الأب إلّا عن طريقي أنا" أو "لا صلاح خارج الكنيسة" في الديانة المسيحية... إنما هي تعبير عن هذا التوجّه الانحصاري والحصري.
ب - الشموليّة الدينية: أو المذهب الشمولي، وقد استخدم «7» هذا المصطلح للتعبير عن نظريتين هما:
النظرية الأولى: إن الأديان جميعاً مآلها ومرجعها إلى أمرٍ واحدٍ، أما الاختلافات البارزة على السطح فليست سوى مجرّد مظاهر وظواهر سطحية لا تعبّر عن أيّ افتراقٍ في العمق، وهذا معناه أنّ الأديان جميعاً قابلة بل هي فعلًا منصهرة في بوتقة واحدة ولا تحكي بالتالي إلا عن أمرٍ واحدٍ.
إنّ هناك من ينسب هذه النظرية بهذا المعنى إلى بعض العرفاء ويحاول استنتاجها من كلمات أمثال محي الدين بن العربي، كما أن بعض النظريات الفلسفية والكلامية المعاصرة فيما يتعلّق بموضوع التجربة الدينية ... قد تصبّ في هذا الاتجاه أيضاً وبشكل أكثر وضوحاً، لا سيما ما طرحته المدرسة البرتستانتية في الغرب المسيحي.
... وإن التعددية الدينية لا تعبّر عن هذه النظرية وإن حصل بعض التداخل بين النظريتين حتى فيما توحيه كلمات بعض المؤسّسين لهما، لأن التعددية ترتكز على الاعتراف بواقع الافتراق والاختلاف ولا تنكره أو تطوعه، وتريد قراءته على ما هو عليه؛ أي مع الحفاظ على ما فيه من تباعداتٍ وتمايزاتٍ.
النظرية الثانية: وهي النظريّة القائلة بأنّ أتباع الأديان الأخرى وإن لم يحالفهم الحظ في الوصول إلى الحقيقة لأنّها منحصرةٌ في دينٍ معيّنٍ إلّا أنّهم يمكن إذا كانوا صادقين ومخلصين أن ينعموا بالنجاة في الدار الآخرة. وفي الحقيقة فإنّ الشموليّة الدينيّة بهذا المعنى - قد تقدّمت خطوةً إلى الأمام نحو التعدّدية. وهي نظريةٌ ظهرت تباشيرها عام 1964 م عندما أصدر الفاتيكان إعلاناً يقضي بمضمونها.
ويعد كارل رانر (1984 - 1904) المتكلّم المسيحي الكاثوليكي أحد أبرز أنصار هذه النظريّة، والتي أوضحها أيضاً كلٌّ من جون هيك ومايكل بترسون.
ووفقاً للشّرح المتقدم لهاتين النظريّتين تتّضح النسبة بينهما وبين التعددية، فالشموليّة الدينية بمعناها الثاني - تمثّل الحدّ الوسط بين الانحصاريّة والتعددية، إذ توسّع التعددية المجال على ما يبدو لما هو أوسع من دائرة النجاة والعقوبة ليشمل الحقيقة نفسها، أما على تقدير التفسير الأول للشمولية فإن التعددية نفسها سوف تقع كحلقةٍ وسطى حينئذٍ بين الانحصار والشمول مدّعيات التعدديّة الدينية كالتعددية بالمعنى العام ترتكز - فيما ترتكز عليه - على مدّعياتٍ ثلاثةٍ في إطار وضع إجابةٍ عقلانيّةٍ عن سرّ التعدد والكثرة في الأديان بصورةٍ عامّةٍ أو في المذاهب المتكثّرة داخل الدّين الواحد أو في الفرق والاتجاهات والمدارس داخل المذهب الواحد وهكذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجلّة «كيان» عدد: 48: 10، مقال للدكتور مصطفى ملكيان حول الليبرالية.
(2) معجم أكسفورد 1995 ذيل كلمة pluralism نقلًا عن "كلام إسلامي" عدد 23: 40.
(3) هناك أكثر من تفسير للعلاقة بين مفهوم التعدّدية ومفهوم التساهل والتّسامح ينشأ بشكلٍ خاصّ من الغموض الذي يلفّ هذا المفهوم الذي يحمل أكثر من معنى وتصوّر، ويمكن في هذا المجال مراجعة كتاب "تسامح آري يا نه" وكذلك نصّ الحوار التلفزيونيّ الذي جرى بين الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي والشيخ حجّتي كرماني وبثّه مباشرة - على حلقات - التلفزيون الإيراني سنة 1999 م.
(4) كفكرة حقّة.
(5) بيام حوزه، عدد 25، 1379 ه - ش، 2000 م، محمد جواد حيدري كاشاني، مقالة: نقدي بر بلوراليسم ديني، ص 102 99.
(6) آل عمران، الآية: 85.
(7) والمقصود بالمستخدم هو بعض الباحثين الإيرانيين من أمثال الشيخ صادق لاريجاني الذي فسّره بالمعنى الأوّل كما ورد في نصّ إحدى محاضراته المنشورة من قبل مركز المطالعات والتحقيقات الثقافية في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة تحت عنوان "بلوراليسم ديني" ..
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ جعفر السبحاني
حيدر حب الله
الشيخ علي المشكيني
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان