علمٌ وفكر

من خلق اللّه؟

الشيخ محمد جواد مغنية

 

إن من يدعي وجود شيء خفي يقع عليه عبء الإثبات، سواء أكان ذلك الشيء حقًّا من الحقوق أم مسألة علمية أم فنية أم تاريخية، أم كان شأنًا من شؤون العقيدة والإيمان.

 

وهذه القاعدة - البينة على من ادعى - لا يشذّ عنها أحد مهما سما بعظمته ومركزه ومهما وصف وعرف بالعدالة والصدق، والورع والتدين، وإذا وجب الأخذ بشهادته اعتمادًا على إخلاصه وتجرده، فإنه ليس بفوق أن يناقش في ذاكرته وأفكاره، ولا بفوق أن يطالب بالدليل على صدق أقواله، فاللّه جل وعلا قد أقام الآيات، وضرب الأمثال على وحدانيته وعظمته، وعلى يوم الحساب والجزاء، ودفع كل شبهة وتعلة تحوم حول وعده ووعيده.

 

ومن هنا أمد اللّه أنبياءه بالحجج الدامغة والبراهين القاهرة، وشرح صدورهم لكل سائل ومجادل، فأفسحوا المجال للمحقّ والمبطل، ليقول كل ما يشاء، ويجادل دون تصنع وتحفظ.

 

إن لدى الإنسان من أسباب الجدل والنقاش ما لا يبلغه الاحصاء «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا. الكهف 45». إن في الإنسان منذ طفولته ميلًا طبيعيًّا إلى التساؤل عما يجري حوله، ويدور في خلده، ورغبة ملحة في الاطلاع على حقائق الأشياء وعللها وأسبابها، وفي انتقاد الآخرين في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، ولكنّ الإنسان كثيرًا ما ينخدع بالمشاهدة السطحية للوهلة الأولى، فيجادل ويناقش على هذا الأساس، أساس ما سمعه من الأقوال، وألفه من العادات وانقاد إليه من النزعات الشخصية.

 

وإلى هذا أشارت الآية 9 من سورة الحج: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ». وقبل أن نعرض أدلة المؤمنين باللّه نذكر طرفًا من جدل أولئك الملحدين، وما علق بأذهانهم من الأوهام. فمن أوهامهم هذا السؤال الذي يعرض للبسطاء السذج:

 

- إذا كان اللّه قد خلق العالم فمن خلق اللّه؟

 

وبقليل من التفكير ندرك أن هذا التساؤل من مخلفات عهد الطفولة مرحلة «السن السؤول». أما الذين نضجت عقولهم فيدركون أن كلمة «خلق اللّه العالم» تعني أنه تعالى خالق غير مخلوق، وأن كل ما عداه يتلقى وجوده منه، ولم يتلق هو وجوده من أحد. إذن ينبغي أن يكون التساؤل على الشكل التالي:

 

لماذا يجب علينا الإيمان بأن اللّه موجود منذ القدم لا يفتقر إلى موجد وأنه يهب الوجود لكل كائن سواه؟

 

الجواب:

 

لو قلنا: إن كل كائن لا بد أن يستمد وجوده من غيره للزم أن لا يوجد شيء أبدًا، لأن معنى قولنا لا يوجد من يعطي إلا بعد أن يأخذ، معناه أنه لا أحد يعطي أبدًا. مثلًا، لو افترضنا أن النقد لا يمكن أن نأخذه من شخص إلا إذا أخذه هو من شخص آخر، بحيث يستحيل أن يوجده فرد أو هيئة، للزم أن لا يوجد شيء يسمى نقدًا.

 

ومثلًا آخر: تعلمت نظرية النسبية من أستاذك، وتعلمها هو من أستاذه، وهكذا إلى أن يصل الدور إلى أينشتين الذي اكتشفها بنفسه، ولو افترضنا أن أحدًا لم يكتشفها من تلقائه لكانت هذه النظرية مجهولة حتى اليوم. وهكذا علم النحو وسائر العلوم لا بد أن تنتهي إلى شخص معين، وإلا لم يكن لها عين ولا أثر.

 

وبتقريب ثان ليس من شك أنه قد وجد شيء كالأرض والنجوم، وإذا وجد شيء وجب أن يكون قد وجد شيء ما بالضرورة يحمل في ذاته علة كافية لوجوده منذ الأزل، لأن كل ما يوجد إما أنه وجد بذاته دون أن يتلقى وجوده من غيره، وأما أن يكون قد تلقاه من موجود آخر، فإذا كان وجوده من ذاته لا من غيره فهو موجود بالضرورة، وهو اللّه، وأما إذا كان تلقاه من غيره فلا بد أن يكون هذا الغير قد وجد بالضرورة ولم يستمد وجوده من أحد.

 

وبتعبير ثالث إن الباحث العلمي إذا لم يدرك سبب الحوادث مباشرة لجأ إلى الافتراض فيفترض وجود شيء يفسر الحادث على أساسه، ثم يختبر هذا التفسير. وهنا افتراضان لا ثالث لهما الأول أن نفترض أن كل موجود يتلقى وجوده من غيره بحيث لا يوجد شيء بدون سبب.

 

الثاني وجود شيء بذاته ولم يتلق وجوده من غيره. والفرض الأول باطل حيث يلزم منه عدم وجود شيء، فيتعين الثاني وهو وجود علة أولى تعطي ولا تأخذ. ومن هنا قال فولتير: «إن الرأي القائل بأن اللّه غير موجود ينطوي على أمور مستحيلة» أي يلزم منه أن لا يوجد شيء أبدًا، وهو خلاف المشاهد بالبديهة وبالتالي فإن الأدلة العقلية تحملنا على الاعتقاد بوجود كائن بالضرورة وهو اللّه تبارك وتعالى. وتوهم الملحدون أن الكون لا يحتاج إلى موجد، لأنهم لم يدركوه بالح ، ولم يستعملوا في معرفته العقل.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد