علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عادل العلوي
عن الكاتب :
السيد عادل العلوي، عالم فاضل وخطيب وشاعر، ولد في السادس من شهر رمضان 1375ﻫ في الكاظمية المقدّسة بالعراق. درس أوّلاً في مسقط رأسه، قبل أن يسافر مع أفراد عائلته إلى قمّ المقدّسة عام 1391ﻫـ ويستقرّ فيها مكبًّا على الدّرس والتّدريس والتأليف، له كثير من المؤلّفات منها: دروس اليقين في معرفة أصول الدين، التقية بين الأعلام، التوبة والتائبون على ضوء القرآن والسنّة، تربية الأُسرة على ضوء القرآن والعترة، عقائد المؤمنين، وغير ذلك. تُوفّي في السابع والعشرين من ذي الحجّة 1442ﻫ في قمّ المقدّسة، ودفن في صحن حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

العلم الإلهامي برؤية جديدة

إن العلم كالجبال الشاهقة، والبحار الغائرة، والأودية الشاسعة، والغابات المتشابكة، والأشجار اليانعة، والثمار الشهية، والمياه العذبة، والنيران الملتهبة، والأرض المدحيّة، والسماء المبنية، والشموس المضيئة، والأقمار المنيرة...

 

العلم من الصفات الكمالية والجمالية الذاتية في الله سبحانه، فإنه عين ذاته، ولا يعلم ما هو إلّا هو، فيكون العلم في الله معنى حقيقيًّا فيتحد العلم والعالم والمعلوم. والعلم فيما سواه جل جلاله من المعاني الإضافية، فإنه رابط بين العالم والمعلوم، فيتوقف تصوّره وتعلّقه على معانٍ أخرى، فما كان مجهولًا صار معلومًا عند العالم به بعد العلم وتعلّقه.

 

إنّ العلم يعني الانكشاف والظهور ورفع الجهل وانطباع صورة الشيء في الذهن، أو الحصول فيه، فيكون من الجوهر أو العرض، من الإضافة، أو من مقولة الكيف النفساني، أو الفعلي أو الانفعال على اختلاف المباني وتعدّد الأقوال وتضارب الآراء.

 

ومهما يكن فكلّ واحد وكلّ مثقّف يعرف العلم ويميّزه عن الجهل، ويسعى منذ نعومة أظفاره، بفطرته السليمة وعقله وضميره الواعي، أن يتعلّم ويزداد علمًا، فإنه يفرّ من الجهل، ويخاف المجهول، ويستنكف إذا نسب الجهل إليه، وهذا من الأمر البديهي والواضح.

 

ثمّ العلم الإنساني أي ما عند الإنسان بصورة عامة، قد قسّمه القدماء والمتأخرون من أساطين العلم والمعرفة إلى أقسام وأصناف لتتمايز العلوم والفنون بعضها عن بعض، كتقسيمه البدوي إلى حضوري، وحصولي، والثاني إلى تصوري وتصديقي، وغير ذلك من التقاسيم كما عند ابن سينا أو الفارابي وغيرهما.

 

ولنا تقسيم جديد حيث قسّمنا العلم إلى اللدني والكسبي ونقصد من الأوّل ما يكون من الله سبحانه أي من لدن حكيم مباشرة وبإلهام، ومن الثاني ما يكون بالكسب والتحصيل كالعلوم البشرية، وهي إما متداولة أو غريبة كالجفر والرمل. والأولى: إما معاشية تتعلّق بالإنسان في حياته الدنيوية كالطب والهندسة وما في الجامعات والمدارس الأكاديمية، أو معادية تتعلّق بالحياة الأخروية أيضًا، ومحورها الروح الإنسانية، كعلوم العقائد والأخلاق والفقه ومقدماتها، كما في الحوزات العلمية الإسلامية.

 

ولا يخفى أن العلوم كلّها في أساسها ومنشأها ترجع إلى الله العلّام العليم سبحانه وتعالى، وذلك بحجّتين: العقل والنقل. والأوّل: هو الرسول الباطني، والثاني هو الوحي والرسول الظاهري، وأحدهما يعاضد الآخر، فلا تنافي بينهما، إلّا أن الثاني أوسع دائرة من الأوّل، فربّ وحي لا يدركه العقل، فيسكت في حكمه، ولا ينفيه، إلّا أنه كلما حكم به العقل حكم به الشرع أيضًا ـ وتفصيل ذلك في محلّه من علم أصول الفقه.

 

والإلهام لغةً واصطلاحًا: إلقاء الشيء في الرُّوع، ويختصّ ذلك بما كان من جهة الله سبحانه وتعالى، وجهة الملأ الأعلى، وأصله من الإلهام والعلم اللدني، والذي يتبلور بالإلهام الإلهي ينقسم بدواً إلى أربعة أقسام، وإن كان المرجع هو الواحد الأحد في العلم الحقيقي الذي هو ذات الله سبحانه، إلّا أنه في قوسه النزولي وتكثّره باعتبار المعاني الأربعة: الخاص والعام للمقابلة، والأخص والأعم للمفاضلة، ينقسم إلى أربعة أقسام: الإلهام بالمعنى الأخصّ، وبالمعنى الخاص، وبالمعنى العام، وبالمعنى الأعمّ. ولا يخفى أن هذا الإلهام يدخل في عنوان التكليم الإلهي أيضًا، فتارة يكون من الأخص، كما كان لموسى الكليم (عليه السلام)، وتارة يكون من العام، كما لكلّ فرد من أفراد الإنسان بإلهام منه.

 

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهجه البليغ في أوصاف عباد الله في فترة الرّسل: «كلّمهم الله في ذات عقولهم». فكلّ واحد يكلّمه الله تكليمًا في ذات عقولهم، أو في سويداء قلوبهم، أو بحبوحة صدورهم بالإلهام والنوايا الصادقة والمعارف الحقة، وكلّ هذا من النور الذي يسعى بين أيديهم في حياتهم الطبيعية، وما وراء الطبيعة من عوالم القبر والبرزخ والقيامة والجنان وجنّة اللقاء والأسماء.

 

ثمّ يبدو لي أن هذا الإلهام منذ الخلق الأوّل في عالم الأرواح ثم العقول، ثم الأشباح، ثم عالم الذرّ، ثم الدنيا، وكذلك في القوس الصعودي في عوالم القبر والبرزخ والقيامة.

 

وإليكم تفصيل الأقسام الأربعة من العلم الإلهامي اللدنّي التكليمي النوري الرحيمي والرحماني، والذي استخرجته من روايات مدرسة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال بحار الأنوار للعلّامة المجلسي ومعجمه الجديد، وما توفيقي إلّا بالله العلي العظيم.

 

1 ـ العلم اللدني والإلهام بالمعنى الأخص: وهو الوحي الخاص بالأنبياء والمرسلين، من آدم إلى الخاتم، ويكون بجبرئيل الأمين عليه السلام أو بمثل الرؤيا النبويّة كما كان لإبراهيم الخليل في ذبح ولده إسماعيل عليهما السلام: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [1].

 

2 ـ الإلهام بالمعنى الخاص: وهو علم الأئمّة المعصومين من أهل بيت النبي المصطفى محمّد صلّى الله عليه وآله. وأميّزه عن الوحي بتسميته (العلم الإيحائي)، وهو في طول العلم الوحيّي بالمعنى الأخص، ويكون من القرع في الأسماع والنكت في القلوب، أو النظر إلى عمود من نور فيه ما كان وما هو كائن وما يكون. وهذان العلمان من الرحمة الرحيميّة المختصّة بأولياء الله سبحانه المصطفين.

 

3 ـ الإلهام بالمعنى العام: ويكون لعامة الناس، إلّا أنّه من الرحمة الرحمانية للكافر والمؤمن. ومنه: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [2]، والاكتشافات والاختراعات. فربّ كافر يخترع ويكتشف ما لا يكون عند المؤمن كأكثر المخترعات المعاصرة؛ فإنها تكون من قبل الكفّار، وذلك إتماماً للحجّة عليهم، ومن باب (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [3]، أو تكون من الرحمة الرحيمية القريبة من المحسنين، ومتعلقه كشف الحقائق الكونيّة وأسرار المعارف الإلهيّة كأسرار العبادات والاستخارات وتعبير الرؤى.

 

وهذا يكون بإلقاء في روع المؤمن بمناجاة من الله أو بواسطة الملائكة، فإن المؤمن محدَّث، تحدّثه الملائكة في سره، فيلهمه الله عز وجل من العلم اللدني الإلهي، ويكون بحمد الله عالماً غير معلّم بتعليمٍ بشري، بل نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده إذا أراد أن ينعم عليه ويهديه إلى الصواب وإلى الحق. ومن أهم الآليات التي توصل الإنسان إلى هذا العلم اللدني الرحيمي العام هو التقوى والورع عن محارم الله بإتيان الواجبات وترك المحرّمات، ولا سيّما التقوى الجنسية لمن أراد أن يكون معبّراً للرؤيا، قال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [4].

 

وهذا العلم يتناسب مع الذوق السليم، والفطرة الموحدة، والكشف الصادق، والشهود الحقّي الرحماني. ودائرته هي المعارف الإلهية، وعلم حقائق الأشياء في ملكها وملكوتها [5].

 

فالمؤمن مُلهَم، يفيض الله عليه من علمه السرمدي الأزلي الأبدي في جماله وكماله المطلق، فتنكشف له بعض الحقائق والأسرار الكونيّة، أو أسرار العبادات والأحكام الشرعيّة. وربما يقف على بعض الحِكَم في المصالح والمفاسد الملزمتين في الأحكام الشرعيّة، وتفتح له آفاقًا جديدة في المعرفة.

 

وربّ مؤمن يقف على حقيقة واحدة في حياته، وربما يقف في كلّ يوم على عشرات من كشف الحقائق: (أَلَا لِلَّهِ فِي دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، وَلَا تُعْرِضُوا عَنْهَا). وفي مثل هذا العلم الإلهامي الخاص بالمؤمنين المحسنين من العلماء الصالحين وغيرهم، فليتنافس المتنافسون، فلا يُلقّاها إلّا ذو حظّ عظيم.

 

(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [6]. وهذا ما يُصطلح عليه بعض العرفاء بالكشف والشهود، ويصل إليه العارف بالله بالتقوى والتضرع بإخلاص إلى الله عز وجل في أن يُلهمه من علمه، ثمّ يتأمّل ويتفكّر في آياته الآفاقية والأنفسيّة حتى يتبين له الحق، من خلال تزكية النفس، وتضعيف القوى الحيوانية، وتقوية القوى الروحانية والإيمانية. وبهذا تنفتح بصيرة قلبه، فيرى من آيات الله الكبرى ما لا يراه غيره، ويشارك الملائكة في العلم الإلهامي المختص بالمؤمنين والمقرّبين الكمّلين.

 

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ليس العلم في السماء فينزل إليكم، ولا في تخوم الأرض فيخرج لكم، ولكن العلم مجبول في قلوبكم، تأدّبوا بآداب الروحانيّين يظهر لكم» [7]. وفي كلام عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام ما يقرّب منه. وبهذا صار موجوداً بما هو إنسان، دون أن يكون موجوداً بما هو حيوان.

 

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، إن زكّاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عِللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد، فقد شارك بها السبع الشداد» [8].

 

وما ألذ وأجمل هذه المعرفة، وهذا العلم الإلهامي المبارك المنطلق من معرفة النفس، لينتهي إلى معرفة الله: (من عرف نفسه فقد عرف ربّه). ومن عرف ربّه عرف كلّ شيء.

 

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لو علم الناس ما في فضل المعرفة، ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعمتها، وكانت دنياهم عندهم أقلّ ممّا يطؤونه بأرجلهم، وليتنعّموا بمعرفة الله تعالى، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنّات مع أولياء الله. إنّ معرفة الله أُنس من كلّ وحشة، وصاحب من كلّ وحدةٍ، ونور من كلّ ظلمةٍ، وقوّة من كلّ ضعفٍ، وشفاء من كلّ سقم» [9].

 

وقال عليه السلام في (مصباح الشريعة): «العارف شخصه مع الخلق وقلبه مع الله، ولو سهى قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه. والعارف أمين ودائع الله، وكنز أسراره، ومعدن نوره، ودليل رحمته على خلقه، ومطيّة علومه» ـ وهذا معنى العلم الإلهامي الخاص بالعرفاء والصلحاء ـ «وميزان فضله وعدله. قد غنى عن الخلق والمراد والدنيا، ولا مؤنس له سوى الله، ولا منطق ولا إشارة ولا نفس إلّا بالله، لله من الله مع الله. فهو في رياض قدسه مترّدد، ومن لطائف فضله إليه متزوّد، والمعرفة أصل وفرعها الإيمان» [10].

 

وقال عليه السلام: «إنّ روح المؤمن لأشدّ اتّصالاً بروح الله من اتّصال شعاع الشمس بها». وفي الحديث القدسي المتّفق عليه عند الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ قال الله سبحانه وتعالى: «ما يتقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أُحبّه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها. إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».

 

قال المحقّق خواجه نصير الدين الطوسي: «العارف إذا انقطع عن نفسه، واتّصل بالحق، رأى كلّ قدرة مستغرقة في قدرته المتعلّقة بجميع المقدورات، وكلّ عِلم مستغرقاً في علمه».

 

قال الشيخ الرئيس ابن سينا في إشاراته في الفصل الثاني (النمط التاسع): «والمتصرّف بفكرة إلى قدس الجبروت مستديماً لشروق نور الحق في سرّه يُخصّ باسم العارف. أي العارف حقاً هو من بفكره بتمام وجوده يتوجّه إلى قدسيّة المعبود وإلى عالم الجبروت، ومن دون وقفة بل باستدامة يكون في إشراق نور الحق في سرّه وذاته.... ».

 

4 ـ الإلهام بالمعنى الأعم: ومنه الوحي للنحل: (اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) [11]. فيختص بالحيوانات، وربما مطلق الجمادات ومنها النباتات، من باب: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [12]. فيعم الكون كلّه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الصافات : 102.

[2] الشمس : 8.

[3] آل عمران : 178.

[4] البقرة : 282.

[5]  ذكرت ذلك في المقالة في صحيفة صوت الكاظمين .

[6] العنكبوت : 69.

[7] الكلمات المكتوبة : 219.

[8] غرر ودرر: :4 218.

[9] روضة الكافي : 247 حديث 327.

[10] مصباح الشريعة : باب 95 ص64.

[11] النحل : 68.

[12] الإسراء: 44.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد