علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

ما بعد الفراغ العجيب

1- في هذا المقام ينعطف العقل من كبريائه الأرضي إلى تساميه، ثم ينزع ما يُثقل جناحيه من بضاعة فانية، ثم يستحثُّ الخَطْوَ ليصرف ما بقي من ميقات العمر في فهم ما كان مضنوناً عليه فهمُه.

 

2 – ما بعد الفراغ العجيب سيرٌ جوهري يجريه الفاهم سعيًا للعثور على باب نجاة. هنالك يحل في أرض ليست كالتي سَكَنَها من قبل. في هذه الأرض يداخلُه ذهول في نفسه من نفسه. يستغربُها وكأنها ليست هي الأرض التي عرفها من زمان وكادت تنخسف بأهلها. حتى العقل الذي كان يحتسب البعد والقرب، ويقيم الوزن على قدر الطبائع والأهواء، سينتهي لدى الفاهم إلى الخسران… لقد بات يدرك الآن، أنه في منفسح غير عادي من تمارين العقل.

 

3- في العقل “الما بعدي” تتلاحم آفاق شتى لتؤلف معًا أفقًا واحدًا. في هذا الأفق، يتبدد كل سؤال لا يستجيب لتلاحم الآفاق وتجانسها، وتحت ظله ينتعش الهمُّ الأقصى لمعرفة الأشياء، وبإقباله يُفتح للفاهم باب التعرُّف على مراتب صاعدة من مجهولات الحكمة.

 

4- في المنفسح الآفاقي يمسي التعرف خاصِّية جوهرية للعقل. ومثل هذه الخاصية تمهِّد لتظهير ما كان احتجب عنه من حقائق بسبب من كبريائه الأرضي وعناده.

 

5- في المدى الجامع للعقل المابعدي. ينبسط الذهن، ويتَّقد الفكر، ويمتد العقل إلى ما  فوق ذاته. حتى ليصير عقلًا حِكمانيًّا تستحثه قوة خلاّقة باتجاه منازل تتعايش فيها الأضداد، وينمو فيها التساؤل الـمُحْيِيِ. هنالك فقط على وجه التعيين، يستحق العقل اسمه الآخر.. الاسم الذي تمنحه إياه وضعيتُه الراعية وخيرِيَّتُه الـمُعْتَنية.

 

6- العقل في امتداده الخلاَّق، عقلٌ محفوظ بالإيمان. فلئن غاب عنه ما يحفظه قَفَلَ راجعًا إلى الفراغ العجيب كرَّة أخرى. وحين يتولى الإيمان حفظ العقل من رجعة القهقرى، يتوجه العقل نحو الإيمان مقرًّا له بجميل صُنعِه. ثم يواصل التقرُّب إليه حتى يضحَى حصَنه الآمن. ولما أن يتلاقى هذا بذاك في حديقة التعاشق يسمو العقل فوق ذاته المتناهية، ويعيها بالإنصات المتدّبر. وبفضل هذا الوعي يفارق العقل تناهيه ومحدوديته ليدخل دورة الانتماء الأصيل إلى الإيمان الأعلى. ولما كان العقل مسلّمة الإيمان، صحّ أن يكون الإيمان تحقّْقَ العقل في ذروة امتداده إلى ما فوق ذاته. وعند هذا المقام يصير الكلام مستحيلًا عن تناقض بين جوهرية الإيمان وجوهرية العقل. والصواب: أن كلًّا منهما يقع في قلب نظيره. فالاختبار الامتدادي للعقل، يقوده إلى ما ليس في الحسبان، إذ ينجذب العقل في وضعيته الجديدة باتجاه أفق يجاوز فيه كل ما يحجبه عن الاستبصار.

 

7 – التسامي عن العوارض الفانية، لا تعني الإعراض عن الموجود الأرضي، ولو كان باعثًا على الشك والشرك. فالموجود وإن هو- بحكم تركُّبه وطبيعته الامتزاجية- كائنٌ زائلٌ، فإنه وبحكم غوايته الأرضية، حاضرٌ في السؤال الموصل إلى ما يتعدى الخواء. وما هذا إلَّا لأجل تحفيز العقل المتخم بكبريائه الأرضي على مجاوزة أهوائه الفانية، والتعرُّف على اللاَّفاني عبر فهم الموجود الفاني والاعتناء بأمره.

 

8- العقل “الما بعدي” الخارج للتو من محنة الفراغ العجيب لا يذعن لانقسام الوجود وتشظِّيه. فإنه متحيِّز للتوحيد، ولذا ستجده حاثًّا خطاه بالانجذاب غير الكسول إلى مصادقة الجميل. فلو انعقد الميثاق زال التناقض الموهوم بين العقل والإيمان. وبفضل مصادقة الجميل يتقدم العقل “الما بعدي” بالنظر الحكيم إلى تلك الثنائية الشاقة ولسان حاله يقول: العقل الذي ينفي الإيمان ويدمُّره، ينفي نفسه ويدِّمرَها. والإيمان الذي يُعرض عن العقل أو يزجره كان له المآل إياه.. ثم إنه يدمر نفسه مثلما يدمر الأصل الذي جاء منه.

 

9- العقل المابعدي جامعٌ للشمل. وحين يلتئم الشمل مع الأساس الإلهي للوجود، تزول الريبة الممتنعة عن الوصل. لذا كان بديهيًّا إلَّا يهتم المرء اهتمامًا لا متناهيًا بشيء إلَّا حين ينتمي إليه جوهريًّا، وينفصل عنه وجوديًّا. ولئن كان الإنسان بطبعه محتاجًا إلى الانتماء، إلَّا أنه في الحضرة الإلهية سيكون محتاجًا إلى انتماء من نوع خاص. ذلك الانتماء هو الإيمان نفسه. وهو الميثاق الذي ينعقد مع الله على جدلية الوصل والفصل. وعلى نحو التناسب والعدل: وصلٌ تمليه التدبيرات الإلهية لعالم الخلق، وفصل يوجبه تأبِّي الذات القدسية عن حدقات الأعين وتنزهها عن مخالطة الأشياء.

 

(مشقَّة الامتلاء)

 

1- ما فوق الفراغ العجيب ضربٌ من امتلاء عجيب. ففي مستهل الامتلاء -الذي لم يكتمل بعد-، تشعر وكأنك ما زلتَ تحت جاذبية الفراغ وسطوته. لذا لن يكون لك أن تنجو من رَهَقٍ ثقيل الظل تفترضه عليك نقلة العقل من طور غامضٍ إلى طور أكثر غموضًا…

 

2- في مستهل الامتلاء لا ينبغي لك أن تبحث عن راحة العقل. كلما امتلأْتَ بقدَرٍ من بساطة الرضى، تضاعَفْتَ بالتساؤل عما ينحجبُ عنك من تراكيب الأقدار وكثافتها. لكنك وأنت تبتغي الامتلاء أكثر وأكثر، لن تفلح إلَّا بمقدار سَعَتكِ. حتى أنك لتوشك على صراخ كتومٍ يضيق به الصدر. ثم لن يكون لك من سبيل إلا أن ترجع القهقرى لتمسك بناصية الصوت وتدفنه في الأحشاء. ليس لك إذًا من بعد ذلك، سوى أن تتكيَّف عالـمَك المستجد وتعيشه كغريب. إلَّا أن ما يميِّز غُربَتَك أنك بتَ تملك قدرًا من صبر. وبعد نقلة العقل أمسيتَ على قسطٍ من الرشَدِ، ومن ثَمةَ على قسطٍ مثلِهِ من التحيُّر. وها أنتذا الآن في ذهابٍ وإيابٍ داخل مثلث عجيب من الصبر والرَّشَد والحَيْرة.

 

3- حين يدعوك “الفراغ العجيب” إلى التهيُّؤ لتحصيل الدرجات القصوى من النشاط العقلي، فما ذاك إلا لمجاوزة معاثر أسئلة كَابَدْتها ردحًا طويلًا. وحين تُلبى الدعوةُ على نحو ما ينبغي، يرى الساكن في “الفراغ العجيب” أن الإنسان الذي يضمّه السؤال ويدور مداره هو أصل الإشكال. لكن الإنسان نفسه عادة ما يميل إلى جعل تساؤله الحائر، تساؤلاً موصولاً باللاَّمرئي، توخياً لشهود القَبَس الطالع من العتم…

 

4- يومئ “ما بعد الفراغ العجيب” إلى أن حامل السؤال حاضرٌ في جوف كلِ سؤالِ ولا يغادره البتة. حتى إذا سأل عن شيء فإنما يسأل عن نفسه في ذلك الشيء. وفي هذه الحال إما أن يصبح كل سؤال هو أدنى إلى صدىً شاردٍ في برية، وإما أن يغدوَ مفتاحًا للإدراك. من تيسَّر له الأخذ بسؤال الفهم ستحمله همة عالية ليكون شاهدًا على ما لا عهد له به. ها هنا ينظر الشاهد الفاهم بحدقات البصيرة إلى محل السر: يسائله، ويستحكي صمته الدهري، ثم يمضي إلى ما هو مستترٍ داخل احتدامات الكثرة. وكل هذا من أجل أن يضع الشاهدُ الفاهمُ تساؤلَه في المحل الأنسب، أو في قلب الشيء الذي هو ناظرٌ إليه.

 

5- في الحضرة التي تلي الفراغ العجيب يظهر المتناهي واللاّمتناهي كَمِثلِ جَبَل التَقَيَا عقب دهرٍ من انشطار الكون. إلا أن اللقاء بينهما كان أدنى الى ضربٍ من قلقٍ متفائلٍ بوعدٍ جلل. مع هذا.. فليس من شأن القلق المتفائل أن يُفضي بالضرورة الى إبرام الميثاق المأمول مع العقل الهادي. فدون ذلك شرائط: أهمها ما ينبغي على الحائر أن يبذله لاستعادة حضوره المترنح وسط الكثرة المحتدمة.  فلا بد له إذًا من التوجه صوب من يَهَبهُ سبيل الرشاد. ولعله خاطب نفسه متنبِّهاً: كيف للناجي من الفراغ العجيب ألاَّ يتبيَّن السبيل الذي يتعرف كل موجود من خلاله على موجدِهِ؟.. أو كيف له ألا يُنشئ وصلاً مع اللاَّفاني، الذي يحيطُه من كل جانب.. ويعصمُه الطوفان، ويحفظُه من الوقوع ثانية في الظلمة؟… تلك محنة عظمى ستظل تقضُّ مضاجع الذين خرجوا للتو من ربقة “الفراغ العجيب”.

 

(في محضر القدسي)

 

1- بعد الفراغ العجيب بقليل يتهيَّأ للخارج منه أن يدًا قدسية تمتد نحوه وتُشعِرُه بشيء من الأمان وَسَعةِ النظر. ولو تنبَّه المتهيِّءُ إلى هذا “التأتِّي اللطفاني” النازل عليه من الامتلاء المحض، سوف يسائل نفسه عن الكيفية التي ينبغي له أن يستقبله بها. والتأتِّي بهذه الصورة غالبًا ما يتدفق من دون حسبان على الناجين من أغلال الفراغ العجيب. ولذلك فهو تدفُّق مفاجئ يثير مشاعر متضادة تراوح بين الدهشة والحبور والتهيُّب. ورغم الفجأة التي غمرته برهبتها، لا يجد الناجي غرابة في ما حل فيه. فالتأتِّي اللطفاني الصادر من اليد القدسية ينبسط أمام المتلقي على أكثر من صورة. حينًا على هيئة عقلٍ هادٍ يفيض على الكل. وحينًا كأمرٍ قدسي يعتني به ويمدّه بالسرور العجيب. وثالثًا على صورة روح كليِّ العطاء ينفق من غير مِنَّة. لكن اليد القدسية فوق كل الذي قيل، ليست إلا ما هي عليه في ذاتها. ذلك بأنها أشدُّ بعدًا من كل كائن، وفي الآن عينه هي أقربُ إلى كل كائن من كل كائن. من أجل هذا، لا يقدر المرء على إدراكها إلَّا إذا غادر كهف أنانيته، وانْسَرَحَ في اللاَّمتناهي. أما كيف له أن يفعل ذلك.. فدون ذلك بابٌ عالٍ سيكون على المتوجه شطر المحضر القدسي دفعه من دون كلل، والإيقان بأن ثمة بعد الفتح معطياً يملأ الفراغ العجيب أمرًا عجبًا..

 

2- يصل الناجي من الفراغ العجيب إلى استشعار الموجة الأولى من إلهامات المحضر القدسي: إمكان العبور من منزلة الاثنينية حيث التناقض والاضطراب، إلى منزلة المثنى وما تنطوي عليه من وئام. يدرك الناجي، أن كل تناظر في الاثنينية آيل إلى الاختصام والفرقة، وأن كل شيء في منطق المثنى محمولٌ على الانسجام والجمع. مرجع الأمر أن الزوجية التي أنشأت مقام المثنى لا تعمل إلا وفقاً لقانون التكامل. ولأنها  كذلك فإن سعيها إلى الوحدة، يجري طبقاً لمبدأ الامتداد الجوهري في عالم الكثرة والتنوع. وعلى هذا المبدأ الساري عبر الانسجام والتناسب بين قطبي المثنى، لا يعود ثمة قطيعة بين أجزاء العالم، وإنما وصلٌ وتوادٌ ورحمانية. فمن كان له حظُّ مجاوزة “الفراغ العجيب” لن يغفل عن هذه السَيرِيَّة الآيلة إلى رتقِ الانفصال الموهوم بين الغيب والحضور.

 

3- يوشك صاحبُ الحظِّ الذي جاوز “الفراغ العجيب” أن يتعرض إلى جذبٍ غير عادي. هو ضربٌ من استشعار خاطف بلذة الامتلاء بالمعنى. معه يتبدَّد كلّ سؤالٍ مميت، لينبعث من بعدهِ التساؤل المحيي. والمتعرِّض للجذب من بعد المجاوزة هو في سفر معرفي لم يألفه من قبل. حتى لكأن سَفَرهُ هذا، عزوفٌ شغوفٌ عن الكثرة المملوة بالغيظ. أو أنه هجرة تروم الوصول إلى ما يتعدى شوائب الماهيات الفانية ومعايبها، أو أنه ذاك الاستشعار الباطني الذي جعله الحكماء فكرًا هاديًا يقود إلى الأصل، ويحيل كل ما في الكون إلى جناب الحضرة القدسية.

 

4- الجذبُ الذي يغمرُ الناجي من الفراغ العجيب، هو سرّ مكتظ بالرهبة. وهو نسيبُ الشيء الذي يوجدُ بتمامه خارج دائرة المعهودِ، وهو المأمون منه، والمأنوس به، والذي يملأ المشاعر دهشة وذهولًا.

 

5- حين يكشف الجاذبُ عن هويته، لا يعود للسؤال عن السر آنئذٍ من نفع. فلا لزوم لإشغال الفكر بأسئلة ومطالب قد تودي بصاحبها إلى الاغتمام. فمن أدرك سر الاندهاش العجيب إدراك عيشٍ ومعاينة، لا يعبأ إن كان قد تعقّل السرّ بالحجة والاستدلال. فقد وصله الدليل بالمعاينة لا بالخبر المشوب بالنقص. فإن من عاش السرّ لا يَعُود يهمُّه التعرف إلى صفاته وآثاره. فإنه بلغ ما بلغ من التعرُّف، وبات يعرف ما لا يطيق معرفته أكثر أهل الندرة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد