علمٌ وفكر

منابع الفلسفة الإسلامية وبواعثها

 

لا يختلف حال مؤرخي الفلسفة، في تاريخ الفلسفة الإسلامية، عنه في تاريخ الفلسفة اليونانية، فإنهم قد تسالموا أيضاً على أن الفلسفة الإسلامية وليدة الفكر اليوناني، وليست أصيلة في ذهن المسلمين وغيرهم..

والظاهر أنهم قد أصدروا هذا الحكم نتيجة مقارنتهم عقلية الإنسان العربي، وحياته قبل الإسلام وبعد عصر الترجمة والنقل، دون الالتفات إلى فترة صدر الإسلام وزمن الرسول الأعظم (ص)، ودون إعمال نظر في القرآن الكريم. إن لم نقل بأنه إهمال متعمد، فإن من البعيد جداً أن لا يلتفتوا لآياته المباركة، ذلك أن هدف المستشرقين الأساسي هو الاطلاع على القرآن الكريم، ليتمكنوا بذلك من محاربة الإسلام وأهله..

هذا بالإضافة إلى أن قسماً من مؤرخي الفلسفة، وربما استنتاجاً من الفكر المسيحي أو حرباً متعمدة، قد انطلقوا من مسلمة أن الدين والفلسفة يختلفان اختلافاً تاماً من حيث الجوهر، بحيث يصبح كل تعاون بينهما غير ممكن على الإطلاق[1]..

إن هذه الفرضية ربما تصح بالنسبة للديانة المسيحية التي أقصت العقل جانبا، وعزلته عن التحكيم في مسائل الإيمان، بعدما اصطدمت العقائد المسيحية بأحكام العقل جملة وتفصيلاً منذ بدايات المسيحية، وعلى رأسها مسألة التثليث التي آمنوا بها، وقد اشتهر عن ترتليان قوله: "أؤمن به لأنه مستحيل"، ومن هنا أخذت الفلسفة في المسيحية منحى تبريريًّا في ما يتعلق بمسائل العقيدة والإيمان، وحصرت تفكيرها في مجالات الحكمة العملية على العموم، وأما موضوع الألوهية فزعمت أن العقل قاصر عن الولوج فيه[2].

وهذه النتيجة هي نفسها التي تحاول الفلسفة الحديثة والمعاصرة على اختلاف مذاهبها أن تثبتها وتؤكدها، بدءاً من فلسفة كانط النقدية وحتى وقتنا الراهن، حتى غدا القول بأن الفلسفة الغربية عبارة عن لاهوت مسيحي لا يجافي الحقيقة.

ولكن هذه الفرضية لا يمكن أن تصدق بالنسبة إلى الإسلام، الذي فتح أبواب العلم والبحوث المعرفية على مصراعيها.

ومن هنا تبرز الخيانة من خلال التشكيك في أصل إمكان وجود فلسفة إسلامية، فنتساءل هل يمكن أن يكون هناك فلاسفة مسلمون كما نقول أن هناك مسلمين فلاسفة[3]..

 

مع أن القرآن الكريم مملوء بالآيات التي تتحدث عن الحكمة مقرونة بالكتاب، مضافاً إلى الآيات التي تدعو إلى التفكر في خلق الله، والتدبر في آياته، وإلى التعقل والتأمل، وهي كثيرة جداً.. ويكفي أن نذكر هنا بعض الآيات الكريمة، فقد قال تعالى:

"أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء[4]"..

"ويتفكرون في خلق السماوات الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً[5]"..

"فاعتبروا يا أولي الأبصار[6]"..

 

"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت[7]"..

فإنه ليس المراد بالنظر حاسة البصر، كما هو ظاهر، وإنما المراد هو التأمل والتدبر في آيات الله، وأخذ العبرة من قدرته تعالى، ومن المعلوم أن مثل هذا النظر عبارة عن البحث المعرفي، من خلال خلق المحفزات الباعثة للإنسان باتجاه إعمال العقل والمعرفة العقلية.

إن دعوة القرآن الكريم للتفكر والتدبر في آيات الله، أدت إلى تغيير الذهنية العربية بشكل عام، فقد كانت عقلية العربي متربية على الشعر والأدب والتفاخر به، والنخوة ببعض القيم الخاصة التي أنتجتها بيئته الجافة التي اكتسبها من حياة البداوة، دون أن ترقى ذهنيته إلى إدراك ما وراء عالمه المحسوس، فلما جاء النبي الأعظم (ص) بدعوته المباركة، استطاع خلال فترة يسيرة الانتقال بهم إلى عالم العقلانية في التفكير، حتى غابت سائر المفاهيم التي كانت تصدح بها شخصية العربي مما لا يمت إلى الحضارة بصلة، وحولته إلى إنسان جديد، باحث عن العوالم الحضارية، والتخطيط، والبحث في ميادين المعرفة بشتى فروعها.

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن التفكير الفلسفي في الإسلام قد رافق الدعوة الإسلامية منذ بدايتها، بل هو من صميم ذاتها، وهو ما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى: "ويعلمهم الكتاب والحكمة"، وإن ما ذكره مؤرخو الفلسفة من أن التفكير الفلسفي قد دخل إلى العالم الإسلامي مع بداية عصر الترجمة، مغاير للحقيقة والواقع جملة وتفصيلاً. 

ولا نريد من ذلك أن نثبت أن القرآن الكريم كتاب نظريات فلسفية، وإنما يوجه العقل الإنساني إلى كيفية التفكير السليم الذي يوصل إلى حقائق الوجود بعد البحث والتأمل، دون أن يفعل بعض النتائج..

من هذا المنطق سنتعرض لقوله تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه[8]"، لنتبين كيف أن القرآن الكريم يثير هذه المسائل لنتحرك نحن بالاتجاه التأملي السليم والموصل..

فقد ذهب المفسرون إلى أن معناها هو أن الإنسان يسعى بعمله الخير أو الشر إلى الآخرة. إلا أننا مع إعمال شيء من التأمل فيها نجد أن هذا المعنى لا ينسجم مع مدلول الآية المباركة، لأن الكدح في اللغة عبارة عن السعي الحثيث والمتواصل، بجهد مقصود نحو المطلوب، الأمر الذي يستلزم كونه اختيارياً، ولما كان المخاطب هو الإنسان مؤمنه وكافره ومنافقه، كان لا بد أن يكون المراد أن الإنسان يسير سيراً تكاملياً إلى الله تعالى كما هو واضح، وإن كان ذلك حاصلاً في النهاية، إلا أنه لا ينطبق عليه معنى الكدح المتضمن للاختيار، بالإضافة إلى أن تعديته بــــ "إلى" تدل على أن السائر هو الإنسان لا عمله، وإلا كان الأنسب أن يتعدى باللام، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: "كما بدأنا أول خلق نعيده[9]"، ونظائرها من الآيات، والله تعالى أعلم..

كما قد ورد كثير من كلام أمير المؤمنين عليه السلام يدل على ما ذكرنا، في نهج البلاغة وغيره، خصوصاً في ما يتعلق بذاته تعالى، بل وبمخلوقاته أيضاً.

إن إطلالة سريعة على نهج البلاغة، تكشف عن مدى الأهمية التي أعطاها أمير المؤمنين (ع) للعقل، والمنزلة التي أنزله إياها، سواء على المستوى التربوي أو السياسي أو الاجتماعي، إضافة إلى ما تقدم، حتى أن كثيراً من المدارس الكلامية التي نشأت فيما بعد، حاولت الانتساب إلى مدرسته، وربطت نفسها، بحق أو بغير حق، بالمنحى الفكري، والتحليل العقلي الذي أبرزه عليه السلام، في نهج البلاغة وغيره من كلماته الشريفة، ومن المعلوم أن أمير المؤمنين (ع) قبل التاريخ المفترض لبدء الترجمة بعشرات السنين..

فما ذكره مؤرخو الفلسفة غير صحيح، سواء بالنسبة إلى نشأة الفكر الفلسفي، أو بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية.. 

 

[1]  روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط ص29 .

[2] روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط, ص315-316

[3]  نفس المصدر ص28 .

[4] سورة الأعراف : آية 185.

[5] سورة آل عمران : آية 191.

[6] سورة الحشر : آية 2.

[7] سورة الغاشية : آية  17 ـ 20.

[8] سورة الإنشقاق آية 6 . 

[9]  سورة الأنبياء  آية 104 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد