المترجم: عدنان أحمد الحاجي
الإحساس بالجوع لا يجعلك تمد يدك وتأخذ تصبيرة فحسب، بل قد يغير أيضًا جهازك المناعي (1).
في دراسة نشرت حديثًا على الفئران، وجدنا أن مجرد الإحساس بالجوع قد يغير عدد الخلايا المناعية في الدم، حتى عندما لم تكن الفئران صائمةً بالفعل. هذا يدل على أنه حتى تفسير الدماغ للجوع يمكن أن يؤثر في كيفية تكيّف الجهاز المناعي مع الحالة.
الدراسة الجديدة المنشورة في مجلة علم المناعة (2) طعنت في الفكرة القائمة منذ فترة طويلة والتي تفيد بأن المناعة تتأثر بشكل أساس بالتغيرات الفيزيائية الحقيقية في التغذية، كالتغيرات الطارئة على نسبة السكر في الدم أو مستويات (كميات) المغذيات (3). ولكن يظهر أن التصور وحده (ما يفترض الدماغ أنه يحدث) يمكن أن يؤثر في المناعة.
ركزنا على نوعين من أنواع خلايا الدماغ المتخصصة جدًّا (عصبونات البروتين المرتبط بالأغوتي AGRP وعصبونات الـ بروأوبيوميلانوكورت POMC) (6، 5، 4) التي تستشعر بحالة طاقة الجسم وتولد الإحساس بالجوع وبالامتلاء (بالشبع) كاستجابة لهذا الاستشعار. عصبونات البروتين المرتبط بالأغوتي AGRP تسبب الإحساس بالجوع أو ترفع من مستواه عندما يكون مستوى طاقة الجسم منخفضة، في حين تقوم عصبونات الـ (بروأوبيوميلانوكورت) POMC بإرسال إشارة بالامتلاء بعد الأكل.
باستخدام أدوات (تقنيات وتكنولوجيات) جينية [مثل كريسبر CRISPR و PCR والتسلسل الجيني، وغيرها]، قمنا بتنشيط عصبونات الجوع اصطناعيًّا في الفئران التي تناولت بالفعل كمية كبيرة من الطعام. تنشيط هذه المجموعة الصغيرة والقوية من خلايا الدماغ أثارت رغبة شديدة من قبل الفئران للبحث عن الطعام. هذا الاستنتاج يعتمد على ما أثبتته الكثير من الدراسات السابقة (7).
لدهشتنا، أدت حالة الجوع المصطنعة هذه أيضًا إلى انخفاض ملحوظ في عدد خلايا مناعية معينة في الدم، تسمى وحيدات النوى (نوع من أنواع كريات الدم البيضاء) (8). هذه الخلايا هي جزء من خط الدفاع الأول للجهاز المناعي وتلعب دورًا مهمًّا في تنظيم الالتهاب (9).
وبالعكس، عندما قمنا بتنشيط عصبونات الشبع في الفئران الصائمة، عادت مستويات وحيدات النوى إلى مستوياتها الطبيعية تقريبًا، بالرغم من أن الفئران لم تأكل. أثبتت لنا هذه التجارب أن إحساس الدماغ بالجوع أو بالشبع وحده كان كافيًا لتغيير عدد الخلايا المناعية في الدم.
لفهم كيف يعمل هذا المحور بين الدماغ والجهاز المناعي، درسنا بعد ذلك كيف يتواصل الدماغ مع الكبد. هذا العضو مهم في استشعار مستويات الطاقة في الجسم. بينت دراسة (10) أيضًا أن الكبد تتواصل مع نخاع العظم - النخاع هو الأنسجة اللينة أو الرخوة داخل العظم حيث يتم فيها إنتاج خلايا الدم والخلايا المناعية (11).
لقد وجدنا علاقة مباشرة بين عصبونات الجوع وبين الكبد عبر الجهاز العصبي الودي (12)، الذي يلعب دورًا غير محدد في تنظيم الوظائف مثل معدل دقات القلب وجريان الدم ومدى استجابة الأعضاء لمتطلبات الإجهاد والطاقة. عندما تُنشط عصبونات الجوع، تحد من الاستشعار بالمغذيات في الكبد وذلك بالحد من نشاط الجهاز العصبي الودي.
هذا يوحي بأن الدماغ يمكن أن يؤثر في كيف تفسر الكبد حالة (مستوى) طاقة الجسم؛ وتشير لها أساسًا بأن الطاقة منخفضة، حتى عندما تكون مستويات المغذيات الفعلية طبيعية. هذا، بدوره، أدى إلى انخفاض في مادة كيميائية تسمى CCL2 (9)، تساعد عادةً على سحب وحيدات النوى إلى الدم. كلما كان مستوى مادة الـ CCL2 أقل، انخفض عدد وحيدات النوى في مجرى الدم.
لاحظنا أيضًا أن إشارات الجوع تسببت في إفراز هرمون الإجهاد المعورف بـ (الكورتيكوستيرون) (13) (على غرار الكورتيزول عند البشر). لم يكن لهذا الهرمون لوحده تأثير كبير في عدد الخلايا المناعية، على الأقل ليس على المستويات التي يمكن إفرازه عادة حال الصيام.
عادة ما تكون هناك حاجة إلى مستويات أعلى بكثير من إفراز هرمونات الإجهاد للتأثير في الجهاز المناعي مباشرة. ولكن في هذه الحالة، كان تأثير الارتفاع المتواضع في مستويات الكورتيكوستيرون أشبه بالمعزز. بالرغم من أن الكورتيكوستيرون لم يكن كافيًا لإثارة التغييرات المناعية لوحده، إلا أن السماح بحدوث استجابة مناعية عند تفاعل (تعاون) الكورتيكوستيرون مع الإشارات القادمة من الدماغ كان مهمًّا.
يوضح هذا أيضًا كيف أن نظام الإجهاد [الجهاز العصبي الودي (12، 14)] في الجسم والتغيرات المناعية قابلة للتدرج (قوةً وضعفًا) في المستوى وكيف تتكيف مع شدة الإجهاد بناءً على طبيعة ومستوى شدة مسببات الإجهاد.
لماذا يتصرف الدماغ بهذا التصرف؟
لماذا يتصرف الدماغ بهذا التصرف؟ بالرغم من أننا لم نختبر هذا شكليًّا، إلا أننا نعتقد أن أحد الاحتمالات هو أن نظام التواصل المعقد متعدد الأعضاء قد تطور لمساعدة الجسم على توقع النقص المحتمل والاستجابة له. بضبط استخدام الطاقة والاستعداد المناعي بناءً على الاحتياجات الفعلية، سيكون الدماغ قادرًا على تنسيق استجابة مناعية فعالة لحماية الجسم بالكامل قبل وقوع أزمة حقيقية.
لو أحس الدماغ بأن الطعام قد يكون محدودًا (على سبيل المثال، بتفسير القرائن البيئية المرتبطة سابقًا بندرة الطعام)، فقد يعمل مبكرًا للحفاظ على الطاقة وضبط الوظيفة المناعية مقدمًا.
إذا تم التأكد من هذه النتائج في البشر، فإن هذه البيانات الجديدة، سيكون لها في المستقبل تبعات حقيقية على الأمراض التي يصبح فيها الجهاز المناعي مفرط النشاط - مثلًا، في حالات أمراض القلب والأوعية الدموية، والتصلب المتعدد (15)، ومتلازمة الهزال في مرضى السرطان (16).
هذا له أهمية أخرى لاضطراب الأيض (17) واضطراب الأكل (18)، مثل السمنة (19) أو فقدان الشهية (20). لا يقتصر الأمر على أن هذه الاضطرابات غالبًا ما تكون مصحوبة بالتهاب مزمن أو مضاعفات لها علاقة بالمناعة، بل بإمكانها أيضًا تغيير كيفية حوسبة الجوع والشبع في الدماغ (21).
وإذا كان الدماغ قادرًا على المساعدة في رفع أو خفض مستوى استجابة الجهاز المناعي، فقد يكون بالإمكان تطوير أساليب جديدة تستهدف الدماغ للمساعدة في تطوير علاجات معدِّلات المناعة الحالية.
ومع ذلك، هناك الكثير مما لا نعرفه. نحن بحاجة إلى مزيد من الدراسات التي تبحث في كيفية عمل هذه الآلية في البشر. قد تكون هذه الدراسات صعبة، حيث لا يمكن تنشيط خلايا عصبية معينة في الدماغ البشري بشكل انتقائي بنفس الدقة التي نستطيعها في حيوانات التجارب.
ومن المثير للاهتمام، أن الطبيب النفساني السوفيتي، تابيلسكي Tapilsky، أجرى منذ أكثر من قرن من الزمان تجربة غير عادية، حيث استخدم التنويم المغناطيسي للإيحاء بالجوع أو بالشبع للمرضى. ومن اللافت للنظر أن عدد الخلايا المناعية زادت عندما قيل للمرضى أنهم شبعوا وانخفضت عندما قيل لهم إنهم جياع.
هذه الملاحظات الأولية ألمحت إلى علاقة قوية بين العقل والجسد، بمدة طويلة قبل التطور العلمي الذي نشهده اليوم وتنبأت بقدرتنا الحالية على استخدام أدوات جينية قوية لتوليد أحاسيس داخلية، مثل الجوع أو الامتلاء في حيوانات التجارب.
ما هو واضح هو أن احساس الدماغ باحتياجات الطاقة في الجسم يمكن أن يؤثر في الجهاز المناعي - في بعض الأحيان حتى قبل بدء الجسم بالاستجابة إلى ذلك. هذا يثير أسئلة جديدة حول كيف تكون حالات، مثل الإجهاد واضطرابات الأكل وحتى التداعيات المكتسبة (22) لندرة الطعام، مسببة للالتهاب والمرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- https://www.moh.gov.sa/HealthAwareness/EducationalContent/PublicHealth/Pages/Immunity.aspx
2- http://https://www.science.org/doi/10.1126/sciimmunol.adr3226
3- https://ar.wikipedia.org/wiki/مغذي
4- https://www.science.org/doi/10.1126/science.abl7398
5- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/ببتيد_مرتبط_بالأغوتي
6- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/بروأوبيوميلانوكورت
7- https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/28817798/
8- https://ar.wikipedia.org/wiki/خلية_وحيدة
9- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0165247823000378
10- https://www.biorxiv.org/content/10.1101/582346v1
11- https://www.immunology.org/public-information/bitesized-immunology/organs-tissues/bone-marrow
12- https://ar.wikipedia.org/wiki/جهاز_عصبي_ودي
13- https://ar.wikipedia.org/wiki/الكورتيكوستيرون
14- https://www.apa.org/topics/stress/body
15- https://www.nature.com/articles/nrcardio.2016.127
16- https://my.clevelandclinic.org/health/diseases/cachexia-wasting-syndrome
17- https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_أيضي
18- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_الأكل
19- http://https://www.nature.com/articles/s41366-021-01035-6
20- https://www.eatingdisorderhope.com/long-term-effects-health/immune-system
21- https://www.nature.com/articles/nn.3211
22- https://ar.wikipedia.org/wiki/تداع_(علم_النفس)
المصدر الرئيس
الشيخ حسين الخشن
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد علي التسخيري
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
التّأقلم مهارة تختصر طريقك للسعادة
التّواصل فنّ ورسالة
كتاب: كشف الأخطار في طبّ الأئمّة الأطهار
هل يُحشر أزواج الذين ظلموا إلى جهنَّم؟
زكي السالم: كيف تتقن فن الطرجمة والطنقرة؟
مجرد تفكيرك في أنك جائع قد يغير جهازك المناعي
مصادر تفسير القرآن الكريم (2)
كتاب (الغَيبة) لابن أبي زينب النعماني
الشك في أقسامه والموقف منه
العلاقة بين العقيدة والأخلاق والعمل