السيد محمد تقي المدرسي ..
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾.
ها هو العالم يندفع بقوة نحو القرية العالمية الواحدة، وسنشهد بإذن اللَّه تعالى يوماً نجد فيه العلاقة بين إنسان وإنسان في أقصى العالم أوثق وأمتن بكثير ممّا هي عليه اليوم؛ علاقات الجيرة وزمالة المدرسة والدرب والعمل... فيا ترى ماذا أعدّ المسلمون لذلك اليوم ؟ هل سيبقون حيث هم بانتظار أن تسحقهم عجلات الاندماج العالمي؟ أم سيصبّون اهتماماتهم ليكونوا أمّة قائدة لهذا التفاعل والاندماج، أو مشاركين؛ على الأقلّ؟
قبل سنين معدودة، كانت المحطات الفضائية العالمية حلماً، وكان الانترنيت نوعاً من الخيال، وكانت الصحافة القارية نوعاً من التفكير غير العلمي.. ولكنّ ذلك كله قد تحقّق كلّه، بل وأصبح إنجازاً قابلاً للتطوير الواسع. وها هو النظام المدرسي أخذ يخطو خطوات واسعة باتجاه إلغاء البناء المدرسي واكتفاء الطالب بتلقي دروسه عبر أجهزة التلفاز أو الحاسوب، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإدارات أو الشركات والمعامل، وذلك كله لتجاوز حاجز المكان واختصار الزمن وتوفير أكبر قدر ممكن من التفاهم. أمّا فيما يخصّ القطاع الاقتصادي فهو الآخر سيأخذ الصيغة العالمية ليحلّ محل الاقتصاد المحلي المحدود، ومن جملة بوادر تكريس هذا الاتجاه الإعلان عن منظمة التجارة العالمية، حيث سيتم عبر مقرراتها وأساليبها سحق مختلف أنواع العقبات في هذا الإطار .
نعم؛ لقد كنّا نقرأ بالأمس في كتاب (صدمة المستقبل) أو كتاب (الموجة الثالثة) أشياء نعتبرها أحلاماً أو خرافات علمية.. ولكنّها تحقّقت، إذ نلمس ونرى حركة عالمية نحو الاندماج والاندكاك، فماذا أعددنا ؟ وهلسنكون ضيوفاً على العالم الجديد، علماً أن الضيف فيه لن يكون مكرّماً معزّزاً؛ بل سيكون ذليلاً تابعاً مهاناً محكوماً بالعبودية، شاء أم أبى، فأين نحن من هذا السيل العرم؟!
الإسلام ومبدأ العولمة
إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم رفع راية العولمة والعالمية من قبل، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ...﴾، أو قوله سبحانه: ﴿... تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾.
إذن؛ فراية العولمة كان قد حملها الرسول الأكرم وبشر بها من بعده الأئمة من أهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام، ومنذ ذلك اليوم وحتّى هذه اللحظة، حيث يمر ما يزيد على ألف وأربع مائة سنة، تُرى هل فكرنا ـ نحن المسلمين ـ في حقيقة هذه العولمة، وكيفيّة التخطيط لها، وهل أنّ موقعنا منها موقع الضيوف أم المساهمين والمشاركين، أم القادة لها؟.
وفي إطار الإجابة على كل هذه التساؤلات أقول: إن هناك ثلاث نظريات في هذا الإطار .
النظرية الأولى: تواجه هذه الحقيقة بالتكذيب التام والعناد لكل ما يطرح ويدعم العولمة ـ من المنظور الإسلامي ـ منأدلّة واضحة وضوح الشمس، بل ويفضل هؤلاء المكذبون الانطواء على أنفسهم، ليكونوا مصداقاً لقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (وذلك ميّت الأحياء).
أماّ النظرية الثانية: فهي التي يلفها اليأس والقنوط دون التطلع إلى التطور، وذلك بداعي الرهبة ممّا وصل إليه العالم وحققه من قفزات علمية هائلة. ومن الطبيعي أن كان هذا الواقع قد سلبهم الثقة بالنفس ومقوّمات الشخصية الكريمة، حتى لم يبق من تعاليم الدين لدى أصحاب هذه النظرية سوى رسوم وأسماء، ذلك لأنّ روح الرسالة الإلهية تتناقض تناقضاً كلياً مع اليأس والإحباط وعدم التوكلّ والتشكيك بقدرة اللَّه العلي العظيم على الأخذ بيد المؤمنين بهم وتسليمهم زمام المبادرة الإنسانية والحركة التاريخية عموماً .
ولكن النظرية الثالثة تملؤها الحياة والتفاؤل؛ إذ تنظر إلى التاريخ على أنه محكوم بسنن إلهية، وأنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أخذ على نفسه أن يتيح الفرصة لمخلوقاته في هذه الحياة لتأخذ دورها وفق ما تبذل من مساعٍ وجهود لإثبات وجودها وجدارتها في العيش والكدح والتقدم .
فإذا كان الأوربيون ـ في يوم من الأيام ـ عبارة عن مجموعة قبائل متناحرة، إلاّ أنّهم بعد ذلك تمكنوا من قيادة العالم، وأصبحت الشعوب والدول مجرّد تابع لها .
وتلك ألمانيا التي كادت أن تسيطر على العالم قد تفككت في ظل قوانين وقرارات الحلفاء، ولكنها عادت مرّةً أخرى لتصبح دولة موحدة مسيطرة على مساحة شاسعة من موازنات الاقتصاد العالمي، ولها كلمتها المسموعة في أوربا .
واليابانيون الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية منهاري القوى والإمكانات، تحكمهم العزلة الدولية، ها هم اليوم قد تحوّلوا إلى رمز التطور ونموذج الإبداع التكنولوجي والمتانة الاقتصادية والتجارية، وتحاول مختلف الشعوب والدول التقرب إليهم والاستفادة من تجاربهم .
وليس هذا وذاك ـ في حقيقة الأمر ـ إلا مصداقاً لقول اللَّه سبحانه وتعالى : ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ...﴾ وكذلك قوله تعالى: ﴿... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...﴾. فالمسلمون الذين يمتلكون هذه المنطلقات الطيبة وأمثالها، كان من المفترض بهم التقدم على غيرهم، وهم إذا ما وجدوا أنفسهم متأخرينعن غيرهم بفعل أخطاء التطبيق وظلم الظلمة وتكالب الأعداد .. فليس من الجدير بهم النكوص والتراجع واليأس، لأنهم بذلك يكونون قد خرجوا عن حدود الدائرة الدينية، والعياذ باللَّه، إذ أنّ التكذيب أمر باطل، واليأس من روح اللَّه هو داء الكافرين باللَّه. بينما الإقبال على الحياة بإيمان وشجاعة وثقة بالنفس وتوكّل على اللَّه القائل : ﴿... إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ هو الكفيل بإعادة الروح إلى جسد الأمة الإسلامية، وهو الكفيل أيضاً بتقدم المسلمين على غيرهم، وما دون ذلك يعني التراجع والذل واستعباد الآخرين لهم، كما هو حاصل بالفعل، ويشعر به المسلمون في كل لحظة وفي كلّ مكان .
عالمية النبي إبراهيم عليه السلام
لقد أضفى اللَّه سبحانه وتعالى بإرادته القادرة على رسالة وشخصية النبي إبراهيم عليه السلام الصفة العالمية، وذلك لعمق الشمولية الحاصلة في تفاصيل هذه الرسالة المباركة، بالإضافة إلى كونه قد أصبح بحكمة اللَّه أباً للأنبياء من بعده في منطقة الجزيرة العربية وما حولها، وقد تجلت هذه الحقيقة بصورة أكبر حينما رفع قواعد البيت الحرام ليكون قبلة الناس إلى اللَّه ضمن عملية توحيد القلوب إلى خالقها؛ بل وأبعد من ذلك حينما دعا هذا النبي العظيم ربّه سبحانه وتعالى بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى من خلّفه من ذرية في وادي مكّة المقفر، وذلك في إيحاء مباشر إلى الفكر البشري عموماً، بأنّ التوجه إلى القبلة إنمّا هو وسيلة إلى التمحور والولاء لذرية النبي إبراهيم من الأنبياء والأئمة عليهم السلام، وذلك لأنهم يجسدون نهج اللَّه الناطق بين الناس، على اعتبار أنّ مهمة النبي إبراهيم والجهد الحثيث الذي بذله في هذا الإطار ليس من أجل أن يعاني الحجاج لقصد مجموعة من الأحجار وسط صحراء قاحلة، بل إن ذرية هذا النبي كان مقدّراً لها إقامة الدين، وهذه الذرية التي تضمّ رجال اللَّه تدعو إلى ربها بالحكمة؛ أي وفق خطط ومناهج مرسومة من قبل اللَّه نفسه .
ولمّا كان هؤلاء الرجال امتداداً طيباً لرسالة أبيهم إبراهيم عليه السلام؛ الرسالة التي من أولى خصائصها العالمية، فقد كان جديراً باتباع هذه الرسالة واتباع أولئك الرجال أن يقتدوا بها وبهم، فيكون نوع تفكيرهم تفكيراً أممياً لا يخضع للوساوس الشيطانية والدوافع المصلحية أو العنصرية أو القومية أو الطائفية أو الطبقية. وإنّه لمن المنطقي جداً أن تكون ممارسات ووسائل التطبيق لمثل هذا المنهج وهذا التفكير عالمية على مستواه .
المسلمون والثورة الحضارية
حينما أمرنا اللَّه عزّ وجل بالدعوة إلى دينه بين الناس كافّة، كان قد أمرنا بالضمن إيجاد المقدمات والوسائل لإنجاز هذه المهمة الكبيرة، وذلك كله لا يغيب عن عناية اللَّه ولطفه ونصره .
فاليوم أصبح من الصعب علينا تصور الاكتفاء بمنبر واحد يدعى فيه إلى اللَّه عز وجل، في وقت يستفيد فيه الأعداء منكل وسيلة تقنية كالمحطات الفضائية ـ مثلاً ـ لنشر أفكارهم الشيطانية المنحرفة .
بل لقد أصبح من غير المعقول الاقتصار على طريقة الدعوة إلى الإسلام نفسها التي كانت قبل مئات السنين ـ مثلاً ـ لاسيما وأنّ قضايا عديدة مستجدة تتطلب أشكالاً أخرى من المعالجة، كما يتبع ذلك توفير الوسائل اللازمة المناسبة للموضوع المراد طرحه وبحثه، والمناسبة لشكل وطبيعة ذهنية المراد توجيهه .
ولنا في هذا المجال التساؤل عن أنّ الأعداء إذا كانوا بصدد توسيع أفق تفكيرهم واستغلال ما يمكن استغلاله من وسائل لكسب تأييد وموافقة أكبر كمية من العقول أو الأهواء، بما في ذلك استغلال العولمة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة لضمان تحقيق المصالح والنفوذ المباشر، إذا كان كلّ ذلك مفروغاً منه وفق تصريحات الأعداء أنفسهم، فلماذا يمتنع المسلمون الاستفادة ممّا أحلّ اللَّه لهم لنشر دين اللَّه بين خلق اللَّه؟! أو لنقل: لماذا يتعمّد البعض تحجيم تفكيرهم ويكتفون بالاهتمامات الضيقة رغم الإمكانات الكبيرة التي من الممكن توفيرها ؟ فإذا كان توسيع الاهتمامات وتطوير الإمكانات، واستغلال الفرص، والتفكير على مستوى هموم العالم والتاريخ؛ إذا كان كل ذلك حراماً، فما هو الدليل ؟! وإذا كان كل ذلك حلالاً أو واجباً، فلماذا هذا الإحجام والتكاسل والتناسي؟!!
أقول : لماذا لا نساهم في بناء حضارة في الثورة المعرفية، وهي الثورة الجديدة لهذا العصر؟ وما هو فعلنا أو ردّ فعلنا ـ على الأقل ـ تجاه ثورة المعلومات التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ؟ خصوصاً وأن في السيرة النبوية كثيراً من الأحاديث والوقائع تشير إلى ضرورة سعي المسلمين نحو التقدم التقني، وعلى كافة الأصعدة؛ بل إنّ الآيات القرآنية الخاصّة بصياغة شخصية الإنسان المؤمن، كلّها تدعوه إلى النظر إلى الحياة على أنها محطة للآخرة، وأن من المفترض الاستفادة من وسائل هذه المحطة لنيل أكبر قدر من الثواب والحسنات .
فنحن المسلمين مطالبون إذن بالقيام بثورة حضارية جديدة كبرى، فننطلق منها ونشارك ونساهم بكل وعي وشجاعة بناءً على ما تمليه علينا مصالح واستراتيجيات ديننا الحنيف، وألاّ نركن إلى التأثر بالجاهليات، وألاّ نبدي خلال ذلك ما يحلو لنا من معاذير واهية . فمشكلة تأخرنا وهزائمنا هي مشكلتنا نحن دون غيرنا، ونحن الذين سندفع ثمنها في الدنيا وكذلك في الآخرة .
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)
الأمّة المستخلفة
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (1)