﴿قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَى الْرُّشْدِ فَأمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً* وَأَنَّهُ تَعَـلَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَـحِبَةً وَلاَ وَلَداً * وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنْسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَال مِّنَ الْجِنَّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ (سورة الجن: 1 - 6).
إطلالة
ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (29 ـ 32) مطابق لسبب نزول هذه السورة، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة، وتوضح سبب النّزول باختصار كما يلي:
1ـ انطلق الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى سوق عكاظ في الطائف بعد قدومه من مكّة ليدعو الناس إلى الإسلام، فرجع بعد رفض الناس لدعوته إلى واد يدعى وادي الجن، وبقي فيه ليلاً وهو يقرأ القرآن، فاستمع إليه نفر من الجن فآمنوا به ثمّ راحوا يدعون قومهم إليه.
2ـ عن ابن عباس قال: كان النّبي صلى الله عليه وآله وسلم منشغلاً بصلاة الصبح، وكان يقرأ فيها القرآن، فاستمع إليه الجن وهم يبحثون عن علّة انقطاع الأخبار من السماء، فقالوا: هذه الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم ليبلغوا ما سمعوا.
3ـ بعد وفاة أبي طالب عليه السلام اشتدّ الأمر برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فعزم على الذهاب إلى الطائف ليبحث عن أنصار له، وكان أعيان الطائف يكذبونه ويؤذونه، ويرمونه بالحجارة حتى أُدميت قدماه صلى الله عليه وآله وسلم، فالتجأ متعباً إلى ضيعة من الضياع، فرآه غلام صاحب الضيعة وكان اسمه "عداس"، فآمن بالنّبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ رجع إلى مكّة ليلاً وصلّى صلاة الصبح وهو بنخله، فاستمع إليه نفر من الجن من أهل نصيبين أو اليمن، وكانوا قد مرّوا بذلك الطريق فآمنوا به.
وقد نقل بعض المفسّرين ما يشابه هذا المعنى في أوّل السورة، ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى، وهو أنّ علقمة بن قيس قال: قلت لعبد اللّه بن المسعود: من كان منكم مع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة فقلنا: اغتيل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أو استطير، فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلاً من نحو حراء، فقلنا: يارسول اللّه، اين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: "إنّه أتاني الجن فذهبت أقرئهم القرآن".
القرآن العجيب!!
نرجع إلى تفسير الآيات بعد ذكر ما قيل في سبب النّزول, يقول اللّه تعالى: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾.
التعبير بـ (أوحي إليّ) يشير إلى أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشاهد الجنّ بنفسه بل علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي، وكذلك يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلاً وشعوراً وفهماً وإدراكاً، وأنّهم مكلّفون ومسؤولون، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي، وبين المعجز وغير المعجز، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد، هذه بعض الخصوصيات لهذا الموجود المستور الحي الذي يمكن الإستفادة منها في هذه الآية، ولهم خصوصيات أخرى سوف نبيّنها في نهاية هذا البحث، وإنّ شاء اللّه تعالى.
إنّ لهم الحقّ في أن يحسبوا هذا القرآن عجباً، لِلَحنِه العجيب، ولجاذبية محتواه، ولتأثيره العجيب، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئاً وقد ظهر من بين الأميين، وكلام عجيب في ظاهره وباطنه ويختلف عن أيّ حديث آخر ولهذا اعترفوا بإعجاز القرآن.
لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (12) آية، وكل منها تبدأ بـ (أن) وهي دلالة على التأكيد.
فيقول أوّلاً: بأنّهم قالوا: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ التعبير بـ "الرّشد" تعبير واسع وجامع، ويمكن أن يستوعب كل امتياز، فهو الطريق المستقيم من دون اعوجاج، وهو الضياء والوضوح الذي يوصل المتعلقين به إلى محل السعادة والكمال.
وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك باللّه تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات اللّه تعالى: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾.
"جد": لها معان كثيرة في اللغة، منها: العظمة، والشدّة، والجد، والقسمة، والنصيب، وغير ذلك، وأمّا المعنى الحقيقي لها كما يقول الراغب في المفردات فهو "القطع"، وتأتي بمعنى "العظمة" إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات، وكذلك يمكن الأخذ بما يناسب بقية المعاني التابعة لها، وإذا ما أطلقنا لفظة "الجد" على والدي لأبوين فإنّما يعود ذلك إلى كبر مقامهما أو عمرهما، وذكر آخرون معاني محدودة لهذه الكلمة فقد فسّروها بالصفات، والقدرة، والملك، والحاكمية، والنعمة، والاسم، وتجتمع كل هذه المعاني في معنى العظمة، وهناك ادعاء في أنّ المقصود هنا هو الأب الأكبر "الجد" وتشير الرّوايات إلى أنّ الجنّ ولقلّة معرفتهم اختاروا هذا التعبير غير المناسب، هذا إشارة إلى نهيهم عن ذكر هذه التعابير.
ويمكن أن يكون هذا الحديث ناظراً إلى الموارد التي يتداعى فيها هذا المغهوم، وإلاّ فإنّ القرآن يذكرهذا التعبير بلحن الموافق في هذه الآيات، وإلاّ لم وقد ذكر هذا التعبير أيضاً في نهج البلاغة، كما في الخطبة (191): "الحمد للّه الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جدّه".
وورد في بعض الرّوايات أنّ أنس بن مالك قد قال : "كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد في أعيننا".
على كل حال فإنّ استعمال هذه اللفظة في المجد والعظمة مطابق لما ورد في نصوص اللغة، ومن الملاحظ أنّ خطباء الجن معتقدون بأنّ اللّه ليس له صاحبة ولا ولد، ويحتمل أن يكون هذا التعبير نفيّ للخرافة المتداولة بين العرب حيث قالوا: إنّ للّه بنات لزوجة من الجن قد اتّخذها لنفسه، وورد هذا الاحتمال في تفسير الآية (158) من سورة الصافات: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾.
ثمّ قالوا: ﴿وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً﴾.
ويحتمل أنّ التعبير بـ "السفيه" هنا بمعنى الجنس والجمع، أي أنّ سفهاءنا قالوا: إنّ للّه زوجة وأطفالاً، واتّخذ لنفسه شريكاً وشبيهاً، وإنّه قد انحرف عن الطريق، وكان يقول شططاً، واحتمل بعض المفسّرين أنّ "السفيه" هنا له معنى انفرادي، والمقصود به هو "ابليس" الذي نسب إلى اللّه نسب ركيكة، وذلك بعد مخالفته لأمر اللّه، واعتراضه على اللّه في السجود لآدم عليه السلام ظنّاً منه أنّ له الفضل على آدم، وأنّ سجوده لآدم بعيد عن الحكمة.
ولمّا كان إبليس من الجن، وكان قد بدا منهُ ذلك، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططاً، وإن كان عالماً وعابداً، ولأن العالِم بلا عمل، والعابد المغرور من المصاديق الواضحة للسفيه.
"شطط" على وزن وسط، وتعني الخروج والإبتعاد عن قول الحقّ، ولهذا تسمّى الأنهار الكبيرة التي ترتفع سواحلها عن الماء بـ "الشط".
ثمّ قالوا: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾.
لعل هذا الكلام إشارة إلى التقليد الأعمى للغير، حيث كانوا يشركون باللّه وينسبون إليه الزوجة والأولاد، فهنا يقولون: لقد كنّا نصدقهم بحسن ظننا بهم ونقول بمقالتهم الخاطئة، وما كنّا نظنهم يتجرؤون على اللّه بهذه الأكاذيب، ولكننا الآن نخطّىء هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن، ونقر بما التبس علينا، بانحراف المشركين من الجنّ.
ثمّ ذكروا إحدى الانحرافات للجن والإنس وقالوا: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾.
"رهق" على وزن (شفق) ويعني غشيان الشيء بالقهر والغلبة، وفُسّر بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه ويغشيه، وقيل إنّ هذه الآية تشير إلى إحدى الخرافات المتداولة في الجاهلية، وهي أنّ الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلاً قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه.
وبما أنّ الخرافات كانت منشأ لازدياد الانحطاط الفكري والخوف والضلال فقد جاء ذكر هذه الجملة في آخر الآية وهي: ﴿فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾.
وذكر في الآية ﴿بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ﴾ ممّا يستفاد منه أنّ فيهم إناثاً وذكوراً، على كل حال فإنّ للآية مفهوماً واسعاً، يشمل جميع أنواع الإلتجاء إلى الجنّ، والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها، وكان في أوساط العرب كهنة كثيرون يعتقدون أنّ الجن باستطاعتهم حلّ الكثير من المشاكل وإخبارهم بالمستقبل.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان