قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عن الكاتب :
عالم عراقيّ وشاعر وأديب، ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1940 م، حوزويّ وأكاديميّ، حصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة الامتياز عام 1979 م، وعلى درجة الأستاذية عام 1988 م، وعلى مرتبة الأستاذ المتمرس عام 1993 م، ومرتبة الأستاذ المتمرس الأول عام 2001 م. له العديد من المؤلفات منها: موسوعة الدراسات القرآنية، موسوعة أهل البيت الحضارية، ديوان أهل البيت عليهم السلام، التفسير المنهجي للقرآن العظيم. توفي الله في 9 يناير عام 2023 بعد صراع طويل مع المرض.

تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب

المجاز العقلي هو الذي تتوصل إليه بحكم العقل، وضرورة الفطرة، وسلامة الذائقة، فيخلصنا من مآزق الالتباس، وشبهات التعبير، فتنظر إليه - وهو يثير الإحساس - مشخصًا عقليًّا، وكأنك تراه، وتلمسه - وهو يهز الشعور - شيئًا مدركًا، وكأنك تبصره، طريقة استعماله تنم عن نتائج إرادته، ودلالته في الجملة تكشف عن حقيقة مراده، فالألفاظ فيه لم تنقل عن أصلها اللغوي، فهي هي تدل على ذاتها الوضعية بذاتها، والكلمات لم تجتز موضعها في اللغة إلى مقارب له أو مشابه، لا من قريب ولا من بعيد، لهذا يقتضي إزاحة الستار عن هذا المجاز لذائقة خاصة، وريادة متبلورة، فليس في المفردات ما يدل على مجازية الاستعمال، وإنما يستشعر ذلك حسيًّا وعقليًّا معًا عن طريق التركيب في العبارة، والإسناد في الجملة؛ فهو مستنبط من هيئة الجملة العامة، ومستخرج من تركيب الكلام التفصيلي دون النظر في لفظ معين، أو صيغة منفردة، وهذا ما يميزه عن المجاز اللغوي؛ فهو إطار جديد، ونتاج جديد، بأسلوب جديد.

 

ويعود كشف هذا النوع من المجاز إلى عبد القاهر (ت: 471 هـ) فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن الاصطلاحي، ومجازات العرب في أشعارها وتراثها، ويرجع الفضل فيه إليه في بيان أبعاده الحقيقية فهو رائده الأول كما يبدو لنا، وما يراه الدكتور طه حسين من ذي قبل(1).

 

ويسمى عبد القاهر هذا المجاز بعدة أسماء متعددة، تعود إلى معنى واحد، فحينما يسند اكتشافه إلى العقل السليم يسميه: مجازًا عقليًّا، وحينما يتوصل إليه بحكم العقل يسميه: مجازًا حكميًا، وحينما يراه في الإثبات دون المثبت يسميه: مجازًا في الإثبات، وحينما يظهر له من إسناد الجملة يسميه: إسنادًا مجازيًّا أو مجازًا إسناديًّا(2)، وقد نبه يحيى بن حمزة العلوي (ت: 749 هـ) إلى فكرة ابتكاره وتشخيصه وتسميته، أسندها إلى عبد القاهر ليس غير، فقال:

 

"اعلم أن ما ذكرناه في المجاز الإسنادي العقلي، هو ما قرره: الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني، واستخرجه بفكرته الصافية، وتابعه على ذلك الجهابذة من أهل هذه الصناعة، كالزمخشري وابن الخطيب الرازي وغيرهما "(3).

 

وهذا التنبيه من صاحب الطراز في موقعه لأن من جاء بعد عبد القاهر قد استند إليه، ولم يزد عليه، بل بقي متأرجحًا فيه بين عدة مداليل، وقد يلجأ إلى التطبيق عليه دون النظر في المفهوم، ولنأخذ بذلك نموذجين:

 

الأول في التعريف: فقد ذهب السكاكي أن المجاز العقلي هو: "الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم لضرب من التأويل، إفادة للخلاف لا بواسطة وضع، كقولك: أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة، وهزم الأمير الجند، وبنى الوزير القصر"(4). فالسكاكي هنا في مجال التعريف والتمثيل معًا، لم يزد شيئًا على ما حققه عبد القاهر في التعريف حينما قال عن المجاز العقلي: "وحدّه أن كل كلمة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه من العقل لضرب من التأويل فهو مجاز"(5).

 

الثاني في التطبيق: ووفق هذا الفهم للمجاز العقلي عند عبد القاهر تجد الزمخشري (ت: 538 هـ) يخرج المعنى الكامل، مخرج المجاز في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت/41).

 

فقد حملها على الإرادة المجازية في النظر العقلي، ناظرًا التركيب الجملي دون اللفظ المفرد، من خلال تشخيص عبد القاهر للمجاز العقلي، فيتحدث عن الآية ويقول: "أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لوكانوا يعلمون"(6) ....

 

فلقد حقق عبد القاهر في المجاز الحكمي عنده، والعقلي عنده وعند من بعده، ورأى أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازًا آخر غير المجاز اللغوي، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل لدى استقراء الجمل في التركيب، والنظر في مجموعة المفردات المكونة للكلام، فهو يقول: واعلم أن طريق المجاز والاتساع.. إنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه، فتجوزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه.

 

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الكلام مجازًا على غير هذا السبيل. وهو: أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط، وتكون الكلمة متروكة على ظاهرها، ويكون معناها مقصودا في نفسه، ومرادًا من غير تورية ولا تعريض. والمثال فيه قولهم: نهارك صائم وليلك قائم، ونام ليلي، وتجلى همي، وقوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (البقرة/16). وقول الفرزدق: "سقاها خروق في المسامع لم تكن.. علاطًا ولا مخبوطة في الملاغم"

 

وقد عقب على هذه النماذج بقوله: "أنت ترى مجازًا في هذا كله، ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولكن في أحكام أجريت عليها، أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك: "نهارك صائم وليلك قائم" في نفس "صائم" "وقائم" ولكن في أن أجريتهما خبرين عن الليل والنهار، كذلك ليس المجاز في الآية في لفظة "ربحت" نفسها، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكم في قوله: سقاها خروق، ليس التجوز في نفس "سقاها" ولكن في أن أسندها إلى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئًا منها إلا أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته؟ فلم يرد بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام، ولا بربحت غير الربح، ولا بسقت غير السقي.. "(7).  فتشخيص المجاز العقلي إنما يتم بمعرفة الأحكام التي أجريت على الألفاظ في إسناد بعضها لبعض، والألفاظ بذاتها محمولة على ظاهرها لا تجوز فيها، واكتشف المجاز العقلي لدى اقترانها، وكان طريق ذلك العقل في حكمه على النصوص، إذا كان المجاز واقعًا ومتحققًا في الإثبات........

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد