قرآنيات

مواضع عِبر أغفلتها التوراة (1)


الشيخ محمد هادي معرفة ..
جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.
وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!
ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين.
قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
وكانت خيانَتُهما هي المُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.
وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.
وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!
أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.


هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟
صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.
وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.
جاء في سورة الأعراف: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إلى قوله (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ).
فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.
ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.
هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.
الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!


نقض فرضية الشمول
يقول (ولتر)  الكاتب الناقد الفرنسي (1694  ـ 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة :كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!
ويزيد ـ مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه ) ـ: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.
ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!
يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً ـ كما هو نصّ التوراة ـ لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين ـ على صغرها ـ فكيف بغمر وجه الأرض وأنْ يعلو قمم الجبال ؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟!.


الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله
نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.
كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.
وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.
وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن  ـ  وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم  ـ : أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل . فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم ـ ممّن كان يعيش هناك طبعاً ـ فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.
وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).
ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس ـ ممّن عمروا البلاد في المنطقة ـ وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.
وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل ـ الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل ـ ، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً.


وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس.
وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء): وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام ..
ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي  التوراة، و(مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.
وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر . ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته.
فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.
وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.
أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا).
أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.


لا شاهد على شمول الطوفان
لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.
بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:
قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.
أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض.
وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم ـ ظهوراً لا ينكر ـ أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً ...
ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى ـ حكايةً عن نوح ـ (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) وقوله: (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) وقوله: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ).
قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة ـ أرض العراق كما هو معروف ـ لم تكن حاجة إلى ذلك؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.


آثار جيولوجيّة
لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.
قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها.
 (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ).
أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.
قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) يعني أرض مصر، وقوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) فالمراد بها مكّة، وقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.
قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه ـ (وهو في أوّليات حياة البشر) ـ وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.
 فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.
وبذلك ظهر عدم دلالة الآية (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.
(لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)
شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.
قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ).
في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:
1 ـ التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.
2 ـ محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.
لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم ـ والذي في عرضة الطوفان ـ وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.
ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه ـ وهو راكبٌ في السفينة ـ لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.
وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.
وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي.
 (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).
شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عُموم الطوفان:
قال العلاّمة الطباطبائي: هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو مُعظمها الذي هو بمنزلة الجميع، قال: ولو كان الطوفان خاصّاً بصُقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها ـ كالعراق على ما قيل ـ لم يكن أيّ حاجة إلى أنْ يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين.
وهذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حَمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان؛ لعلّة استبقاء نسلها لئلاّ تنقرض، قال صاحب المنار: والتقدير ـ على قراءة حفص [بتنوينِ كلٍّ] ـ : احمل فيها من كلّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً وأُنثى؛ لأجل أنْ تبقى بعد غَرق سائر الأحياء، فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض.
وعامّة المفسّرين على ذلك، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليّات بهذا المعنى، جاء في سِفر التكوين: ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكراً وأُنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى؛ لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض وهكذا ورد في الإسرائيليّات.
ولكن ما قَدْر السفينة حتّى يُحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهليّة والوحشيّة والحشار والطيور؛ لئلاّ ينقرض نسل الأحياء، بل وفي هذه الروايات: حَمل الأزواج من أنواع النبات والشجر والأعشاب، وهو من الغرابة بمكان!!
وبحقٍّ قال سيّد قطب: ومرّة أخرى تتفرّق الأقوال حول (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).
وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليّات قويّة.
وتعقّبه بقوله: أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويَشتطّ حول النصّ (احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ممّا يملك نوح أنْ يُمسك، وأنْ يَستصحب من الأحياء، وما وراء ذلك خبط عشواء.
وهذا هو الرأي الصحيح، فقد رخّص الله لنوح أنْ يَحمل معه ما يَملكه من الحيوانات الأهليّة بقَدر ما يحتاج إليه من زادٍ وراحلة، ولا يُثقل حِملَه حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأُولى، وأمّا سائر الأحياء الأهليّة والوحش فتتشرّد لوجهها، ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث، كما هو مألوف، هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر.
والزوجان ـ في الآية ـ يراد به المتعدّد في تشاكل، أي من كلّ جنس عدداً يفي لتأمين الحاجة بها.
وهذا نظير قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا (في الأرض) زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة، كالتفّاحة في أشكالها وألوانها، وهكذا الليمون والرّمان، وسائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة، كما قال تعالى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أي مُتشاكلاً وغير متشاكل.
وجاء في وصف فواكه الجنّة: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) أي صنفان متشاكلان، والمراد المتعدّد في أشكالٍ وأصناف، كما قال: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) أي متشاكلاً.
ومن الواضح أنّ الثمرة ـ وهي الفاكهة ـ ليس فيها ذكر ولا أُنثى ولا تزاوج لقاح، وإنّما ذاك في بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار.
على أنّها لغةٌ دارجة: أنْ يُراد بالمثنّى الشِّياع في الجنس لا الاثنان عدداً، قال أبو علي: الزوجان في قوله: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يراد بهما الشِّياع، وليس يراد بهما عدد الاثنين، كما قال الشاعر:
فاعمَد لما يعلو فمالكَ بالذي      لا تستطيعُ مِن الأُمور يَدانِ
يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الأمور.
قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:
وكلُّ  رَفيقَي كلِّ رَحلٍ وإنْ هُما      تَعاطى القَنا قوماهُما أَخَوانِ
إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحَل، وإنّما يُريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين.
وأمّا وصف الزوجين بالاثنين؛ فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع، كما قال تعالى: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) خطاباً مع المشركين، نهى عن اتخاذ الآلهة ، ومع ذلك جاء تأكيده بالاثنين، زيادةً في المبالغة، ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
وإنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر، والمعنى: النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى وقد بحثنا عن إرادة الشِّياع من المثنّى بتفصيل فليُرجع إليه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد