قرآنيات

أسباب النزول


السيد محمد باقر الصدر ..
معنى سبب النزول:
نزل القرآن الكريم لهداية الناس وتنوير أفكارهم وتربية أرواحهم وعقولهم، وكان في نفس الوقت يحدد الحلول الصحيحة للمشاكل التي تتعاقب على الدعوة في مختلف مراحلها، ويجيب عن ما هو جدير بالجواب من الأسئلة التي يتلقاها النبي من المؤمنين أو غيرهم، ويعلق على جملة من الأحداث والوقائع التي كانت تقع في حياة الناس، تعليقا يوضح فيه موقف الرسالة من تلك الأحداث والوقائع.
وعلى هذا الأساس كانت آيات القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: الآيات التي نزلت لأجل الهداية والتربية والتنوير دون وقوع سبب معين - في عصر الوحي - أثار نزولها، كالآيات التي تصور قيام الساعة ومشاهد القيامة وأحوال النعيم والعذاب وغيرها، فإن الله تعالى أنزل هذه الآيات لهداية الناس من غير أن تكون إجابة عن سؤال، أو حلا لمشكلة طارئة، أو تعليقا على حادثة معاصرة.
والآخر: الآيات التي نزلت بسبب مثير وقع في عصر الوحي واقتضى نزول القرآن فيه، كمشكلة تعرض لها النبي والدعوة وتطلبت حلا أو سؤالا استدعى الجواب عنه، أو واقعة كان لا بد من التعليق عليها، وتسمى هذه الأسباب التي استدعت نزول القرآن بأسباب النزول، فأسباب النزول هي: أمور وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها.
وذلك من قبيل ما وقع من بناء المنافقين لمسجد ضرار بقصد الفتنة، فقد كانت هذه المحاولة من المنافقين مشكلة تعرضت لها الدعوة وأثارت نزول الوحي بشأنها، إذ جاء قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين...) .
وكذلك سؤال بعض أهل الكتاب مثلا عن الروح من النبي فقد اقتضت الحكمة الإلهية ان يجاب عنه في القرآن فنزل قوله تعالى: (... قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا)  وبهذا أصبح ذلك السؤال من أسباب النزول.
وكذلك أيضاً ما وقع من بعض علماء اليهود، إذ سألهم مشركو مكة من أهدى سبيلاً محمد وأصحابه أم نحن؟ فتملقوا عواطفهم وقالوا لهم: أنتم أهدى سبيلاً من محمد وأصحابه، مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي المنطبق عليه، وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه، واشتراكهم مع المسلمين بالعقيدة الإلهية والإيمان بالوحي والكتب السماوية واليوم الآخر، فكانت هذه واقعة مثيرة أدت على ما جاء في بعض الروايات إلى نزول قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) .
وكذلك المعارك التي خاضها المسلمون في بدر وأحد والأحزاب والحديبية وحنين وتبوك وغيرها.
فهذه قضايا وقعت في عصر الوحي، وكانت داعية إلى نزول الوحي بشأنها، فكانت لأجل ذلك من أسباب النزول.
ويلاحظ في ضوء ما قدمناه من تعريف لأسباب النزول أن أحداث الأمم الماضية التي يستعرضها القرآن الكريم ليست من أسباب النزول، لأنها قضايا تأريخية سابقة على عصر الوحي وليست أموراً وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول القرآن بشأنها، فلا يمكن أن نعتبر حياة يوسف وتآمر إخوته عليه ونجاته وتمكنه منهم سبباً لنزول سورة يوسف، وهكذا سائر المقاطع القرآنية التي تتحدث عن الأنبياء الماضين وأممهم فإنها في الغالب تندرج في القسم الأول من القرآن الذي نزل بصورة ابتدائية ولم يرتبط بأسباب نزول معينة.


الفائدة من معرفة السبب:
ولمعرفة أسباب النزول أثر كبير في فهم الآية وتعرف أسرار التعبير فيها، لأن النص القرآني المرتبط بسبب معين للنزول تجئ صياغته وطريقة التعبير فيه وفقا لما يقتضيه ذلك السبب، فما لم يعرف ويحدد قد تبقى أسرار الصياغة والتعبير غامضة عنه، ومثال ذلك قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما...) فإن الآية ركزت على نفي الإثم والحرمة عن السعي بين الصفا والمروة دون أن تصرح بوجوب ذلك، فلماذا اكتفت بنفي الحرمة دون أن تعلن وجوب السعي؟
إن الجواب عن هذا السؤال يمكن معرفته عن طريق ما ورد في سبب نزول الآية من أن بعض الصحابة تأثموا من السعي بين الصفا والمروة، لأنه من عمل الجاهلية فنزلت الآية الكريمة، فهي إذن بصدد نفي هذه الفكرة من أذهان الصحابة والإعلان عن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وليس السعي بينهما من مختلقات الجاهلية ومفترياتها.
وقد أدى الجهل بمعرفة سبب النزول في هذه الآية عند بعضهم إلى فهم خاطئ في تفسيرها... إذ اعتبر اتجاه الآية - نحو نفي الإثم بدلاً من التصريح بالوجوب - دليلاً على أن السعي ليس واجباً وإنما هو أمر سائغ، إذ لو كان واجباً لكان الأجدر بالآية أن تعلن وجوبه بدلاً من مجرد نفي الإثم، ولو كان هذا يعلم سبب النزول والهدف المباشر الذي نزلت الآية لتحقيقه، وهو إزالة فكرة التأثم من أذهان الصحابة لعرف السر في طريقة التعبير، والسبب في اتجاه الآية نحو نفي الإثم والتركيز على ذلك.


تعدد الأسباب والمنزل واحد والعكس:
قد يتفق وقوع عدة أشياء في عصر الوحي كلها تتفق في إشارة واحدة وتستدعي نزول القرآن بشأنها، كما إذا تكرر السؤال - من النبي مثلاً - عن مشكلة واحدة، فإن كل سؤال يقتضي نزول الوحي بجوابه، ويقال في هذه الحالة إن الأسباب متعددة والمنزل واحد.
ومن هذا القبيل ما يروى في أن النبي سئل مرتين عمن وجد مع زوجته رجلاً كيف يصنع، سأله عاصم بن عدي مرة، وسأله عويمر مرة أخرى، واتفق في مرة ثالثة أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي بشريك بن سمحاء، فكانت هذه أسباباً متعددة تستدعي نزول الوحي لتوضيح موقف الزوج من زوجته إذا اطلع على خيانتها، وما إذا كان من الجائز له أن يقذفها ويتهمها بدون بينة أو لا يجوز له ذلك إلا ببينة، فإن اتهم بدون بينة استحق حد القذف، كما هو شأن غير الزوج إذا قذف امرأة أخرى، ولأجل ذلك نزل قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) فكان السبب متعدداً والمنزل واحد.
وفي حالة تعدد السبب قد يوجد فاصل زمني كبير بين أحد السببين والآخر، فيؤدي السبب الأول إلى نزول الآية فعلاً، ثم يتجدد نزولها حينما يوجد السبب الثاني بعد ذلك بمدة، فيكون السبب متعدداً والنزول متعدداً وإن كانت الآية النازلة في المرتين واحدة.
ويقال: إن سورة الإخلاص من هذا القبيل إذ نزلت مرتين، إحداهما: بمكة جواباً للمشكرين من أهلها، والأخرى بالمدينة جواباً لأهل الكتاب الذين جاورهم النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة.
وكما يتعدد السبب والمنزل واحد كذلك قد يتفق كون السبب واحداً لآيات متفرقة فقد روي أن أم سلمة قالت للنبي (صلى الله عليه وآله) يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشئ فنزل قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب)  ونزل قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات...) .
فهاتان آيتان متفرقتان نزلتا بسبب واحد أدرجت إحداهما في سورة آل عمران، والأخرى في سورة الأحزاب، وبذلك كان السبب في النزول واحداً وهو حديث أم سلمة مع النبي والمنزل متعدد.
وعلى هذا الأساس يجب أن لا نسرع إلى الحكم بالتعارض بين روايتين تتحدثان عن أسباب النزول إذا ذكرت كل منهما سببا لنزول آية يغاير السبب الذي ذكرته الرواية الأخرى لنزول نفس تلك الآية، أو إذا تحدثت الروايتان عن سبب واحد فذكرت كل منهما نزول آية بذلك السبب غير الآية التي ربطتها الرواية الأخرى به؛ لأن من الممكن في بعض الموارد فهم الاختلاف بين الروايتين والتوفيق بينهما على أساس إمكان تعدد سبب النزول لآية واحدة أو تعدد الآيات النازلة بسبب واحد فلا يوجد بين الروايتين تعارض على هذا الأساس.


العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
إذا نزلت الآية بسبب خاص، وكان اللفظ فيها عاما فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا يتقيد بالمدلول القرآني في نطاق السبب الخاص للنزول أو الواقعة التي نزلت الآية بشأنها، بل يؤخذ به على عمومه، لأن سبب النزول يقوم بدور الإشارة لا التخصيص، وقد جرت عادة القرآن أن ينزل بعض أحكامه وتعليماته وارشاداته على إثر وقائع واحداث تقع في حياة الناس وتتطلب حكما وتعليما من الله، لكي يجئ البيان القرآني أبلغ تأثيرا وأشد أهمية في نظر المسلمين وإن كان مضمونه عاماً شاملا، فآية اللعان مثلاً تشرع حكماً شرعيّاً عاما لكل زوج يتهم زوجته بالخيانة وإن نزلت في شأن هلال بن أمية، وآية الظهار تبين حكم الظهار بصورة عامة وإن كان نزولها بسبب سلمة بن صخر.
وعلى هذا الأساس اتفق علماء الأصول على أن المتبع هو مدى عموم النص القرآني وشمول اللفظ فيه، وأن سبب النزول مجرد سبب مثير لنزول الحكم العام وليس تحديداً له في نطاقه الخاص، لأن مجرد نزول حكم اللعان عقيب قصة هلال ابن أمية مثلا لا يدل إطلاقا على أن الحكم يختص به، ولا يبطل عموم اللفظ  وشمول النص لسائر الأزواج.
وقد جاءت نصوص عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تعزز هذا المعنى وتؤيده، ففي تفسير العياشي عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنه قال: "... إن القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين".
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إن القرآن حي لم يمت وإنه يجري كما يجرى الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا" "... فلا تكونن ممن يقول للشئ: إنه في شئ واحد".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد