قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

هل قاتلت الملائكة؟

قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 10 - 14] .

 

لقد جرى البحث في هذه المسألة كثيراً بين المفسّرين، فبعضهم يرى أنّ الملائكة دخلت ساحة القتال (في بدر) وهاجمت الأعداء بأسلحتها الخاصّة، وقتلت بعضهم. ونقلت بعض الرّوايات في تأييد ذلك. إلاّ أنّ القرائن تؤيد الرأي الذي يقول: إنّ الملائكة نزلت لتطمئن قلوب المؤمنين، ويزداد عزمهم، وهذا الرأي أقرب إلى الواقع لعدّة أدلة:

 

أوّلا: لقد قرأنا في الآية قوله تعالى: (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ). فإذا ما علم المسلمون بهذا المدد فإنّهم يقاتلون بصورة أفضل، لا أن الملائكة شاركت في الحرب.

 

ثانياً: إذا كانت الملائكة هي التي قتلت جنود الأعداء، فأيّة فضيلة للمجاهدين في معركة بدر وما ورد عن مقامهم ومنزلتهم من روايات كثيرة؟

 

ثالثاً: كان عدد المقتولين في بدر هو (70 نفراً) وقد كان الكثير منهم قد سقط بسيف علي (عليه السلام)، والقسم الآخر بيد المقاتلين الآخرين، وهؤلاء معروفون بأسمائهم في التاريخ، فبناءً على ذلك ـ من الذي ـ بقي لتقتله الملائكة؟!

 

ثمّ تذكر الآية النعمة الثّانية التي اكتنفت المؤمنين فتقول: (إذ يغشيكم النعاس أمنةً منه).

 

و (يغشى) من مادة (الغشيان) بمعنى تغطية الشيء وإحاطته. فكأنّ النوم كالغطاء الذي وُضعَ عليهم فغطّاهم.

 

و(النعاس) يطلق على بداية النوم، أو النوم القليل أو الخفيف الناعم ولعلها إشارة إلى أنّه بالرغم من هدوئكم النفسي لم يأتكم نوم عميق يمكّن الأعداء من  استغلاله والهجوم عليكم. وهكذا استفاد المسلمون من هذه النعمة العظيمة من تلك الليلة.

 

والرحمة الثّالثة التي وصلتكم هي: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشّيطان).

 

وهذا الرّجز قد يكون وساوس الشيطان، أو رجزاً بدنياً كجنابة بعضهم، أو الأمرين معاً. وعلى أية حال، فإنّ الماء ملأ الوديان من أطراف بدر بعد أن استولى الأعداء على آبار بدر وكان المسلمون بحاجة ماسة للغسل ورفع العطش، فإذَا هذا الماء قد ذهب بكل تلك الأرجاس.

 

ثمّ أنّ الله تعالى أراد بذلك تقوية معنويات المسلمين وكذلك تثبيت الرمال المتحركة تحت أقدامهم بواسط المطر: (وليربط على قلوبكم ويثبّت به أقدامكم)... ويمكن أن يكون المراد من تثبيت الأقدام هو رفع المعنويات وزيادة الثبات والاستقامة ببركة تلك النعمة، أو إشارة إلى هذين الأمرين.

 

والنعمة الأخرى التي أنعمها الله على المجاهدين في بدر، هي الرعب الذي أصاب به الله قلوب أعدائهم، فزلزل معنوياتهم بشدة، فيقول تعالى (إذ يوحي ربّك إلى الملائكة إنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا). (سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب).

 

وإنّه لمن العجب والغرابة أن ينهار جيش قريش القوي أمام جيش المسلمين القليل، وأن تذهب معنوياتهم ـ كما ينقل التاريخ ـ بصورة يخاف معها الكثير منهم من منازلة المسلمين، وحتى أنّهم كانوا يفكرون بأنّ المسلمين ليسوا أشخاصاً مألوفين، وكانوا يقولون بأنّ المسلمين قد جاؤوكم من قرب يثرب (المدينة) بهدايا يحملونها على إبلهم هي الموت.

 

ولا شك أنّ هذا الرعب الذي أصاب قلوب المشركين، والذي كان من عوامل النصر، لم يكن جزافاً، فلقد أثبت المسلمون شجاعتهم وأقاموا صلاة الجماعة، وكانت شعارتهم قوية. فإظهار المؤمنون الصادقين وفاءهم وخطبة بعضهم مثل سعد بن معاذ نيابة عن الأنصار أمام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: «بأبي أنت وأمّي، يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منه ما شئت والذي أخذت منه أحبّ إليّ من الذي تركت منه، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لنحضنا مع .... إِنّنا لنرجوا أن يقرّ الله عزّوجلّ عينيك بنا....».

 

مثل هذا الحديث سرعان ما انتشر بين الأعداء والأصدقاء، أضف إلى ذلك ما رآه المشركون من ثبات راسخ عند المسلمين يوم كانوا في مكّة رجالاً ونساءً.

 

اجتمعت كل هذه الأمور لترسم صورة الخوف عند المشركين.

 

ثمّ الريح العاتية التي كانت تهب على المشركين والمطر الشديد عليهم والخواطر المخفية لرؤيا (عاتكة) في مكّة، وغيرها من العوامل التي كانت تبعث فيهم الخوف والهلع الشديد.

 

ثمّ إن القرآن يذكّر المسلمين بالأمر الذي أصدره النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين بأنّ عليهم اجتناب الضرب غير المؤثر في المشركين، حال القتال لئلا تضيع قوتهم فيه، بل عليهم توجيه ضربات مؤثرة وقاطعة (فأضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان).

 

و(البنان) جمع (البنانة) بمعنى رؤوس أصابع الأيدي أو الأرجل، أو الأصابع نفسها، وفي هذه الآية يمكن أن تكون كناية عن الأيدي والأرجل أو بالمعنى الأصلي نفسه، فإنّ قطع الأصابع من الأيدي يمنع من حمل السلاح، وقطعها من الأرجل يمنع الحركة، ويحتمل أن يكون المعنى هو إذا كان العدو مترجلاً، فيجب أن تكون الأهداف رؤوسهم، وإذ كان راكباً فالأهداف أيديهم وأرجلهم.

 

كما أنّ بعضاً ى يرى أنّ هذه الجملة هي خطاب للملائكة، إلاّ أنّ القرائن تدل على أنّ المخاطبين هم المسلمون، وإذا كان الملائكة هم المخاطبين فيها فيمكن أن يكون الهدف من الضرب على الرؤوس والأيدي والأرجل، هو إيجاد الرعب فيهم لترتبك أيديهم وأرجلهم فتسقط وتنحني رؤوسهم. (وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يخالف الظاهر من العبارة، ويجب إثباته بالقرائن).

 

وبعد كل تلك الأحاديث، ولكيلا يقول شخص بأنّ هذه الأوامر الصادقة تخالف الرحمة والشفقة وأخلاق الرجولة، فإنّ الآية تقول: (ذلك بأنّهم شاقوا الله ورسوله).

 

و(شاقوا) من مادة (الشقاق) وهي في الأصل بمعنى الانفطار والانفصال، وبما أنّ المخالف أو العدوّ ويبتعد عن الآخرين فقد سمي عمله شقاقاً: (ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب).

 

ثمّ يؤكّد هذا الموضوع: ويقول: ذوقوا العذاب الدنيوي من القتل في ميدان الحرب والأسر والهزيمة السافرة، ومع ذلك انتظروا عذاب الآخرة أيضاً: (ذلكم فذوقوه وإنّ للكافرين عذاب النّار).

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد