قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد ابو القاسم الخوئي
عن الكاتب :
مرجع شيعي كبير، ورئيس الحوزة العلمية في النجف

اوهام حول إعجاز القرآن (2)

 

السيد أبو القاسم الخوئي .. 
إن القرآن، وإن سلم إعجازه، إلا أنه لا يكشف عن صدق نبوة من جاء به، لأن قصص القرآن تخالف قصص كتب العهدين التي ثبت كونها وحيًا إلهيًّا بالتواتر.
الجواب
إن القرآن بمخالفته لكتب العهدين في قصصها الخرافية قد أزال ريب المرتاب في كونه وحيًا إلهيًّا، لخلوه عن الخرافات والأوهام، وعما لا يجوز في حكم العقل نسبته إلى الله تعالى، وإلى أنبيائه، فمخالفة القرآن لكتب العهدين بنفسها دليل على أنه وحي إلهي... وقالوا:
إن القرآن مشتمل على المناقضة فلا يكون وحيًا إلهيًّا، وقد زعموا أن المناقضة وقعت في موردين:
الأول: في قوله تعالى:﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا﴾1.
فإنه يناقض قوله تعالى:﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾2.
الجواب
إن لفظ اليوم قد يطلق ويراد منه بياض النهار فقط كما في قوله تعالى:﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾3 .
وقد يطلق ويراد منه بياض النهار مع ليله كما في قوله تعالى:﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾4.
كما أن لفظ الليل قد يطلق ويراد به مدة مغيب الشمس واستتارها تحت الأفق، وعليه جاء قوله تعالى:﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾5. ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾6.
وقد يطلق ويراد منه سواد الليل مع نهاره، وعليه جاء قوله تعالى:﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾7.
واستعمال لفظي الليل والنهار في هذين المعنيين كثير جدًّا، وقد استعملا في الآيتين الكريمتين على المعنى الثاني "مجموع بياض النهار وسواد النهار" فلا مناقضة. وتوهم المناقضة يبتني على أن لفظي الليل والنهار قد استعملا على المعنى الأول. وما ذكرناه بين لا خفاء فيه، ولكن المتوهم كابر الحقيقة ليحط من كرامة القرآن بزعمه هذا. وقد غفل أو تغافل عما في إنجيله من التناقض الصريح عند إطلاقه لهاتين الكلمتين!!!.
فقد ذكر في الباب الثاني عشر من إنجيل متى: إخبار المسيح أنه يبقى مدفونًا في بطن الأرض ثلاثة أيام أو ثلاث ليال. مع أن إنجيل متى بنفسه والأناجيل الثلاثة الأخر قد اتفقت على أن المسيح لم يبق في بطن الأرض إلا يسيرًا من آخر يوم الجمعة، وليلة السبت ونهاره، وليلة الأحد إلى ما قبل الفجر.
فانظر أخريات الأناجيل، ثم قل لكاتب إنجيل متى، ولكل من يعتقد أنه وحي إلهي: أين تكون ثلاثة أيام وثلاث ليال. ومن الغريب جدًّا أن يؤمن علماء الغرب ومفكروه بكتب العهدين، وهي مليئة بالخرافات والمناقضات، وألا يؤمنوا بالقرآن، وهو الكتاب المتكفل بهداية البشر، وبسوقهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولكن التعصب داء عضال، وطلاب الحق قليلون.
الثاني: إن القرآن قد يسند الفعل إلى العبد واختياره. فيقول:﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾8.
والآيات بهذا المعنى كثيرة، فيدل على أن العبد مختار في عمله. وقد يسند الاختيار في الأفعال إلى الله تعالى. فيقول:﴿مَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾9.
فزعموا أنه يدل على أن العبد مجبور في فعله. وقالوا: هذا تناقض واضح، والتأويل في الآيات خلاف الظاهر، وقول بغير دليل.
الجواب
إن كل أنسان يدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الأفعال، فيمكنه أن يفعلها وأن يتركها، وهذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد إلا أن تعتريه شبهة من خارج. وقد أطبق العقلاء كافة على ذم فاعل القبيح، ومدح فاعل الحسن، وهذا برهان على أن الإنسان مختار في فعله، غير مجبور عليه عند إصداره. وكل عاقل يرى أن حركته على الأرض عند مشيه عليها تغاير حركته عند سقوطه من شاهق إلى الأرض، فيرى أنه مختار في الحركة الأولى، وأنه مجبور على الحركة الثانية.
وكل إنسان عاقل يدرك بفطرته أنه وإن كان مختارًا في بعض الأفعال حين يصدرها وحين يتركها إلا أن أكثر مبادئ ذلك الفعل خارجة عن دائرة اختياره، فإن من جملة مبادئ صدور الفعل نفس وجود الإنسان وحياته، وإدراكه للفعل، وشوقه إليه، وملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه، وقدرته على إيجاده، ومن البين أن هذا النوع من المبادئ خارج عن دائرة اختيار الإنسان، وأن موجد هذه الأشياء في الإنسان هو موجد الإنسان نفسه.

وقد ثبت في محله أن خالق هذه الأشياء في الإنسان لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد، وأن بقاء الأشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن، وليس مثل خالق الأشياء معها كالبناء يقيم الجدار بصنعه، ثم يستغني الجدار عن بانيه، ويستمر وجوده وإن فني صانعه، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه، ثم يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره. بل مثل خالق الأشياء معها "ولله المثل الأعلى" كتأثير القوة الكهربائية في الضوء. فإن الضوء لا يوجد إلا حين تمده القوة بتيارها، ولا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين، فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوة في حين، انعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن. وهكذا تستمد الأشياء وجميع الكائنات وجودها من مبدعها الأول في كل وقت من أوقات حدوثها وبقائها، وهي مفتقرة إلى مدده في كل حين، ومتصلة برحمته الواسعة التي وسعت كل شئ. وعلى ذلك ففعل العبد وسط بين الجبر والتفويض، وله حظ من كل منهما. فإن إعمال قدرته في الفعل أو الترك وإن كان باختياره. إلا أن هذه القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض من الله، فالفعل مستند إلى العبد من جهة والى الله من جهة أخرى والآيات القرآنية المباركة ناظرة إلى هذا المعنى، وأن اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة الله وسلطانه.
ولنذكر مثلاً تقريبياً يتضح به للقارئ حقيقة الأمر بين الأمرين الذي قالت به الشيعة الإمامية، وصرحت به أئمتها، وأشار إليه الكتاب العزيز.
لنفرض إنسانا كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها لطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلًا، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلًا، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها - والطبيب يمده بالقوة في كل آن - فلا شبهة في أن تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين، فلا يستند إلى الرجل مستقلًا، لأنه موقوف على إيصال القوة إلى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلًا، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد، ولم يفوض إليه الفعل بجميع مبادئه، لأن المدد من غيره، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلها من هذا النوع. فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئًا إلا بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلها تشير إلى هذا الغرض، فهي تبطل الجبر - الذي يقول به أكثر العامة - لأنها تثبت الاختيار، وتبطل التفويض المحض - الذي يقول به بعضهم - لأنها تسند الفعل إلى الله.
وهذا الذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت عليهم السلام وعلومهم وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. وإليك بعض ما ورد منهم:


سأل رجل الصادق عليه السلام فقال:
"قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا.
قلت: ففوض إليهم الأمر؟ قال: قال: لا. قال:
قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك"10.
وفي رواية أخرى عنه
"لا جبر ولا قدر، ولكن منزلة بينهما"11.
وفي كتب الحديث للإمامية جملة من هذه الروايات. وقالوا:
لو كان الإتيان بكتاب ما معجزًا "لعجز البشر عن الإتيان بمثله" لكان كتاب إقليدس وكتاب المجسطي معجزًا، وهذا باطل فيكون المقدم باطلًا أيضًا.
الجواب
أولًا: إن الكتابين المذكورين لا يعجز البشر عن الإتيان بمثلهما، ولا يصح فيهما هذا التوهم، كيف وكتب المتأخرين التي وضعت في هذين العلمين أرقى بيانًا منهما، وأيسر تحصيلًا، وهذه الكتب المتأخرة تفضل عليهما في نواح أخرى، منها وجود إضافات كثيرة لا أثر لها فيهما.
ثانيا: إنا قد ذكرنا للمعجز شروطًا، ومن هذه الشروط أن يكون الإتيان به في مقام التحدي. والاستشهاد به على صدق دعوى منصب إلهي. ومنها أن يكون خارجًا عن نواميس الطبيعة، وكلا هذين الشرطين مفقود في الكتابين المذكورين. وقالوا:
إن العرب لم تعارض القرآن، لا لكونه معجزًا يعجز البشر عن الإتيان بمثله، ولكنهم لم يعارضوه لجهات أخرى لا تعود إلى الإعجاز. أما العرب الذين عاصروا الدعوة، أو تأخروا عنها قليلًا، فقد كانت سيطرة المسلمين تمنعهم عن التصدي لذلك، فلم يعارضوا القرآن خوفًا على أنفسهم وأموالهم من هؤلاء المسيطرين، ولما انقرضت سلطة الخلفاء الأربعة وآل الأمر إلى الأمويين الذين لم تقم خلافتهم على محور الدعوة الإسلامية، صار القرآن مأنوسًا لجميع الأذهان بسبب رشاقة ألفاظه، ومتانة معانيه، وأصبح من المرتكزات الموروثة خلفاً عن سلف، فانصرفوا عن معارضته لذلك. 
الجواب
أولًا: إن التحدي بالقرآن، وطلب المعارضة بسورة من مثله، قد كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل أن تظهر شوكة الإسلام، وتقوى سلطة المسلمين، ومع ذلك لم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يقوم بهذه المعارضة.

ثانيًا: إن الخوف في زمان الخلفاء، وسيطرة المسلمين، لم يمنع الكافر من أن يظهر كفره، وإنكاره لدين الإسلام. وقد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب وغيرها بأهنأ عيش وأكرم نعمة، وكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. ولا سيما في عصر خلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - الذي اعترف بعدله ووفور علمه المسلمون وغيرهم. فلو كان أحد هؤلاء الكتابيين، أو غيرهم قادرًا على الإتيان بمثل القرآن، لأظهره في مقام الاحتجاج. 
ثالثا: إن الخوف لو سلم وجوده فهو إنما يمنع عن إظهار المعارضة والمجاهرة بها، فما الذي منع الكتابيين، أو غيرهم من معارضته سرًّا في بيوتهم ومجامعهم؟ ولو ثبتت هذه المعارضة لتحفظ بها الكتابيون ليظهروها بعد زوال الخوف عنهم، كما تحفظوا على قصص العهدين الخرافية، وسائر ما يرتبط بدينهم.
رابعا: إن الكلام - وإن ارتفع مقامه من حيث البلاغة - إلا أن المعهود من الطباع البشرية أنه إذا كرر على الأسماع هبط عن مقامه الأول، ولذلك نرى أن القصيدة البليغة إذا أعيدت على الإنسان مرارًا ملها، واشمأزت نفسه منها، فإذا سمع قصيدة أخرى فقد يتراءى له في أول نظرة أنها أبلغ من القصيدة الأولى، فإذا كررت الثانية أيضًا ظهر الفرق الحقيقي بين القصيدتين. وهذا جار في جميع ما يلتذ به الإنسان، ويدرك حسنه من مأكول، وملبوس ومسموع وغيرها. والقرآن لو لم يكن معجزًا لكان اللازم أن يجري على هذا المقياس، وينحط في نفوس السامعين عن مقامه الأول، مهما طال به الزمان وطرأ عليه التكرار، وبذلك تسهل معارضته، ولكنا نرى القرآن على كثرة تكراره وترديده، لا يزداد إلا حسنًا وبهجة، ولا يثمر إلا عرفانًا ويقينًا، ولا ينتج إلا إيمانًا وتصديقًا، فهو في هذه المزية على عكس الكلام المألوف. وإذن فهذا الوجه يؤكد إعجازه لا أنه ينافيه كما يتوهمه هذا الخصم.
خامسا: إن التكرار لو فرض أنه يوجب أنس النفوس به، وانصرافها عن معارضته، فهو إنما يتم عند المسلمين الذين يصدقون به، ويستمعون إليه برغبة واشتياق كلما تكررت تلاوته، فلماذا لم يعارضه غير المسلمين من العرب الفصحاء؟ لتقع هذه المعارضة موقع القبول ولو من غير المسلمين. 


1- آل عمران:41.
2- مريم:10.
3- الحاقة:7.
4- هود: 65
5- الليل:1.
6- الحاقة:7.
7- البقرة:51.
8- الكهف:29.
9- الإنسان:30
10- الكافي. كتاب التوحيد. باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين. 
11- نفس المصدر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد