قرآنيات

(قصة قابيل وهابيل) صراع الخير والشرّ


الشهيد مرتضى مطهري ..

1- قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ (المائدة/27) هو دعوة لسرد القصّة كما هي بلا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، أي الطلب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتحدّث عن الحدث كما حدث، وهذه لفتة قرآنية في ضرورة تحرّي الدقّة في النقل لأيّة واقعة أو حدث أو قصة أو خبر، لأنّك لا تستطيع أن تعطي حكماً دقيقاً على ما تسمع إلاّ بعد أن تكون الوقائع بالنسبة إليك دقيقة.

2- القصّة ذات مشهدين: مشهد عبادي يتحدّث عن تقريب القربان(1) ومشهد حواري يتصاعد فيه الحدث إلى نقطة الذروة ووصول الصراع إلى نقطة القتل.

المشهد الأوّل: ويلخّصه لنا قوله تعالى: ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة/27) وكما تذكر بعض التفاسير، فإنّ (هابيل) كان قد تقرّب بكبش سمين، فيما تقرّب (قابيل) بحزمة من سنابل القمح، أي أنّ (هابيل) قدّم أفضل ما عنده، وقدّم أخوه أدنى ما عنده، ويبدو أنّ قربان كلّ منهما يدلّ على نفسيّة وشخصيّة كل منهما، وربّما كان بإمكان (قابيل) تقديم كبش سمين كما فعل أخوه، لكنّه بخل وقبض يده ناسياً أنّه يتعامل مع الله الذي يجب أن لا يبخل معه بشيء، لأنّه واهب ورازق كلّ شيء، وهو- أي الله تعالى- لا يناله لا من الكبش ولا من القمح شيء. ففي أضحيات الحج يريد الله للحاج أن يصل قربانه إلى الجياع والفقراء: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ (الحج/37) وهذا هو الشرط الأوّل في القربان ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة/27).
ولا يخفى عليك، أن علاقة التقوى- وهي طلب رضا الله- بالقربان، علاقة تقدير لمقام الله تعالى من جهة العبد نفسه، وأنت تعرف من خلال تجاربك، أنّ مَنْ يحبّ أكثر يقدّم أكثر، إن كان بإمكانه ذلك، ولذا فالبخل مع الله هو بخلٌ في عطاء الله ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ (الحديد/7) وهو علامةُ الاستهانة بمقام الله عزّ وجلّ.

المشهد الثاني: ويلخّصه قوله تعالى: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ (أي قول قابيل)، ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة/27)، (وهو قول هابيل) الذي أضاف: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة/28) هذا المشهد الحواري المقتضب يلخّص لنا هويّة الأخوين وطبيعة كلّ منهما الفكرية والنفسية.
(قابيل): حسود، حقود، انفعالي، يحكّم غريزته، ويحاول أن ينفّس عن حسده وحقده بقتل أخيه، وهو إلى ذلك جاهلٌ لا يعرف أنّ القبول وعدم القبول بيد الله لا بيد أخيه، فلا ذنب ل- (هابيل) بقبول الله لقربانه وعدم قبوله لقربان أخيه. وقد يكون عالماً بذلك لكنّ حسده أعماه فلم يعد يبصر نور الحقيقة وهو ساطع.
أمّا (هابيل) فيظهر لنا: عارفاً بالله، ومتيقناً أنّ القبول مشروط بالتقوى، أي أن يكون العمل خالصاً لله وابتغاء مرضاته، وهو لا يتعامل بطريقة ردّ الفعل الاستفزازية، وإنّما يحكّم عقله ودينه في النظر إلى الأمور. فهو لمعرفته أنّ القتل عند الله شنيع لم ينسق إلى مقاتلة أخيه.


دروس القصة (أوجه المقارنة):
هذه القصة مرشحة أن تكون بين أي أخوين أو صديقين أو إنسانين آخرين، وما يمكن التقاطه منها، هو:
1- الإيمان ليس مجرد فكرة في الداخل، وإنّما هو عمل في الخارج.
2- (الإيمان) و (الحسد) لا يجتمعان لأنّهما نقيضان، فالمؤمن يتمنّى الخير للناس والحسود يريد زواله عنهم، ولذا جاء في الحديث: «الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب». فأن تكون مؤمناً يعني أن تحب للناس ما يحبّه الله لهم.
3- كظم الغيظ، وعدم الانجرار مع الانفعال بالموقف الاستفزازي، وعدم التعامل بالمثل مع القدرة عليه، ليس ضعفاً ولا انهزاماً، بل يرمز إلى قوة الإرادة والتحكّم بالانفعالات الغريزية، ودليل على قوة ورصانة الشخصية، ووسيلة من وسائل الارتفاع والتسامي على موقف الانسياق أو تلبية نداء الانفعالات الحادّة.
4- الحوار العقلاني يعني تجنّب استخدام لغة العنف واللجوء إلى القوّة طالما أنّ القضية ليست قوة في مواجهة قوة أخرى، أو منازلة في حلبة صراع، وإنّما هي نقاش بالعقل والحكمة الحسنة وصولاً إلى الحقيقة، فالعنف في مثل هذه الحالات هو منطق الضعفاء الانهزاميين الذين لا يريدون الاقتناع رغم أنّ الحجّة واضحة، كما هو منطق (قابيل).
5- موقفنا من شخصيتي القصة هو الانحياز إلى جانب الضحيّة (هابيل) لأنّنا نؤمن ببراءته، وسلامة نيّته، ونبل موقفه، وابتعاده عن إثارة غضب الله في قتل النفس المحترمة التي لا يجوز قتلها إلاّ بالحقّ.

ونعتبر موقف (قابيل) هو موقف كلّ الطغاة الذين لا يفهمون سوى منطق القوة والعنف والقتل والتصفية، وهو منطق مرفوض لأ نّه يعبّر عن حالة حيوانية افتراسية، ليس لها استعداد للتفاهم والحوار.
فموقف (هابيل) هو موقف الخير واللاّعنف وإرادة السلام، وموقف (قابيل) موقف الإرهاب والفساد والترويع.


تطبيقات القصة العملية:
إنّ حالات الصراع بين (الخير والشرّ).. بين صاحب النعمة والمحروم منها، بين الشبان والفتيات كثيرة، ومن ذلك: قد ينتقم تلميذ من تلميذ آخر لأنّه متفوّق في فصله، ولأنّه يحظى بتقدير واعتزاز معلّميه به، والحال أن لا داعي للانتقام وترتيب الأثر، فهذا الطالب المتفوق قد بذل جهده، وحصل على النتيجة المميزة أو العلامات العالية، ولو بذل الطالب المنتقم، أو الراغب بزوال هذه النعمة عن زميله، جهده وجدّ لوجد، وحصل على نتيجة مقاربة أو مماثلة أو أكبر منها.
وقد ينقم شاب من شاب آخر لأنّه حصل أو تعرّف على فتاة طيبة من أسرة كريمة، وقد وافق أبواها على تزويجها منه، وكانا قد سبقا أن رفضا طلب يد الشاب الآخر لحسابات وقناعات خاصّة بهما وبابنتهما، وهنا يحاول الشاب المرفوض أو المصدود أن ينفّس عن صدّه بالانتقام من الشاب المرحَّب به المقبول من تلك الأسرة.
ولو فكّر الشاب الذي يفكّر بالانتقام لرأى أنّ الشاب المقبول لا ذنب له في الأمر، فهو قد أتى البيتَ من بابه واستُقبل بترحاب واحترام لأنّهم رأوا فيه المواصفات التي يطلبونها لزوج ابنتهم، ولم يروها في الآخر، أو كانت لهم مبرراتهم الأخرى، لكنّه الحسد أو الحقد الأعمى الذي لا يدع صاحبه يرى بعيني عقله بل بعيني غريزته الهائجة، وذاته التي يشعر أنّها انتُقصت.
وربّما ينتقم شخص من أحد أصدقائه لأنّه تقرّب إلى صديق آخر وجد فيه الصحبة الحسنة، الكريمة، الصالحة، والمعشر اللطيف، وابتعد عنه لأنّه لم يره كذلك، فيحاول الانتقام من الشخص المقرّب الذي يعتبره مزاحماً له، بأن يسيء إلى سمعته، ويقول فيه قولاً جارحاً ليحمل صديقه الذي جافاه على تركه وهجرانه، وهو عدوان على إنسان بريء، كما تلاحظون.
وقد تنقم فتاة من فتاة أخرى، وربّما كانت صديقتها أو قريبتها أو زميلتها، لنفس السبب في المثال الأسبق، خاصة إذا تقدّم شاب لخطبة الأولى ثمّ عدل عنها إلى الثانية، وهي لا علم لها بالحادثة السابقة على خطبته لها، فتتجنّى الأولى على الثانية في تشويه صورتها في نظر الخاطب بشكل أو بآخر، وما ذاك إلاّ لأ نّها ترى في الفتاة الأخرى غريمتها ومنافستها، وربّما تظنّ- تحت تأثير حالة الحسد الشديد- أنّها سرقته منها، وبدلاً من أن تعاتب أو تحاسب الخاطب تعاقب الخطيبة البريئة، كما عاقب (قابيل) (هابيل) وهو بريء.
فهذه الحالات أو التطبيقات (القابيلية)- نسبةً إلى قابيل- تصدر من نفوس أعماها الحسد، وسدّ الحقد منافذ تفكيرها فلا ترى إلاّ ظلمة الانتقام.
وحتى نخرج القصة من إطارها التأريخي، حيث أنّها وقعت في فجر البشرية، لا بدّ من ملاحظة هذه التطبيقات وأمثالها، ولا بدّ لكلّ شاب وفتاة يقرآن أيّة قصة من قصص القرآن، خاصة النماذج المتقابلة، أن يطرحا السؤال التالي: لو كنتُ أحدهما، فمن سأكون: قابيل أم هابيل ؟ أو أيّ الموقفين يمكن أن أتخذ، موقف العنف أم موقف الحوار ؟ وبذلك يمكن أن تختبر شخصيتك فيما إذا كنت تحبّ أهل الخير أو أهل الشرّ.
ــــــــــــــ
(1) يبدو - كما في بعض التفاسير - أنّ آدم (عليه السلام) قد علّم ولديه أن يتقرّبا في أعمالها أو نذورهما إلى الله تعالى بتقديم صدقة معيّنة تسمّى (القربان) وهي مأخوذة من القربة إلى الله، ويراد بها قبول الله لعمل معين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد