قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الحكيم
عن الكاتب :
عالم فقيه، وأستاذ في الحوزة العلمية .. مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، استشهد سنة٢٠٠٣

الاختلاف والوحدة في نظر القرآن الكريم (2)


السيد محمد باقر الحكيم ..

الاختلاف بسبب العقائد:
لما برز الاختلاف بسبب الهوى واقترن ذلك بتطور الحياة الإنسانية ووجود التعقيد والتركيب فيها واصبح الإنسان عاجزاً عن أن يقوم بمفرده ـ ومن خلال عقله وفطرته ـ عن حل المشكلات الصعبة والعميقة في حياته عندئذٍ حصل تطور جديد في الحياة الإنسانية، حيث تفضل الله سبحانه على عباده بإنزال الكتب والرسالات السماوية وإرسال الأنبياء؛ ليرشدوا هؤلاء الناس إلى طريق الهدى والصلاح، وليحكموا في الخلافات والنزاعات لهؤلاء الناس بالحق والعدل، كما تؤكد على ذلك الآية السابقة وغيرها من الآيات ] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم[ ([14]).
وقد كان لهذا التطور الجديد أن يرتقي بالحياة الإنسانية في فهمها للحياة وللكون، وفي تشخيص معالم الفطرة في النفس الإنسانية وتوضيحها ضمن صيغ وقوانين محددة، كما تم تشخيص مواضع القسط والعدل، والظلم والجور، ومعالم الصلاح والفساد، والخير والشر، والحسنة والسيئة، والمعروف والمنكر، والأخلاق بجانبيها: المحمود والمذموم. وكما توضحت سبل وأساليب الارتباط بالله تعالى وعبادته وحمده وشكره وتسبيحه وتقديسه، كل ذلك من خلال الرسالات السماوية.

وفي مقابل هذا التطور الجديد والضروري الذي يمثل الرحمة الإلهية تطور الامتحان والاختبار لهذا الإنسان، متناسقاً مع درجة التكامل الجديدة التي أخذ يواجهها هذا الإنسان. فحدث نوع جديد من الاختلاف، وهو: الاختلاف في العقائد الإلهية من خلال تأثير الهوى في الإنسان، حيث سيطر على سلوك بعض الناس، وتحول إلى إله يعبد من دون الله، فانحرف هذا الإنسان عن فطرته التي اختفت تحت ركام السيئات والذنوب والانحرافات والآثام والشهوات، الأمر الذي أدى إلى التمرد على الله تعالى، ورفض الإنسان الاستماع إلى نداءات الرسل والأنبياء في التوحيد الإلهي، أو في الإيمان بالوحي والرسالة، أو الإيمان بالمعاد والنشور، وحتى النداءات الأخلاقية والإصلاحية للمجتمع وللإنسان، في تحقيق العدل والقسط، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التحول في الأوضاع الإنسانية والبشرية، وهذا النوع من التمرد في مثل قوله تعالى:
] أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون * وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يظنون[ ([15]).
وتمثل سورة نوح ـ عليه السلام ـ صورة رائعة عن هذا التطور والمواجهة التي حصلت في بدايات هذا التحول في التاريخ البشري كما يظهر في قوله تعالى: ] قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً * فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً * ثم إني دعوتهم جهاراً * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً[ ([16]).

كما أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى هذا النوع من الاختلاف، وبشكل عام في الآية (213) من سورة البقرة، وفي مثل قوله تعالى: ] إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب[ ([17]). ]تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون[ ([18]). ]وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لاريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير * ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير[ ([19]).

ولعل هذا النوع من الاختلاف هو الذي أشار إليه إبليس في محاورته مع الله سبحانه وتعالى وتوعده للإنسان، تعبيراً عن الحالة التي كان عليها إبليس في موقفه من السجود لآدم وتمرده على الله تعالى، حيث انطلق في ذلك من الهوى والأنا والشعور بالتمييز الذاتي على آدم عليه السلام ] ولقد خلقناكم ثم صورنا كم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال انظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال أخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملئن جهنم منكم أجمعين[ ([20]). ] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين[ ([21]).


الاختلاف بسبب الفساد في الأرض:
وفي تطور آخر إلى جانب الاختلاف العقائدي بدأ سبب آخر للاختلاف ينطلق من الهوى أيضاً، وهو: الاختلاف بسبب الجهل والطغيان، وتحول بعض الممارسات السلوكية إلى عادات ثابتة، أو تقاليد مقدسة لوراثتها عن الآباء والأجداد، وبفعل الاجتهادات والتغيرات القائمة على الهوى والأغراض الشخصية أو الظنون والأوهام، الأمر الذي أدى إلى انقسام الناس إلى جماعات متعصبة وأحزاب متفرقة يقتل بعضهم البعض الآخر ويشرده من دياره، أو يستعبده ويستغله من أجل مصالحه وحاجاته وإرضاء لرغباته وشهواته. ] ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون[ ([22]).
]إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين[ ([23]).
] فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم[ ([24]).
]لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني وإن هم إلاّ يظنون[ ([25]).
]يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون[ ([26]).
] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون[ ([27]).
] وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون[ ([28]).
وقد وردت آيات كثير في سور متعددة بهذا الصدد فراجع ([29]).
وهناك المئات من الآيات الكريمة التي تناولت معالم الفساد والانحراف في العقائد والسلوك والاجتهادات، وتحدثت عن مفردات الهوى وزخارف الدنيا وآثارها في الحياة الإنسانية.
وقد شرع الإسلام الدعوة إلى الله والبلاغ بالهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لمواجهة هذه الأنواع من الاختلافات بحسب مستوياتها وطبائعها، كما تنص على ذلك الآيات الكريمة الكثيرة.
] ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون[ ([30]).
]إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقّا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم[ ([31]).
وقد أكد القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى ـ من أجل تنبيه الناس ووعظهم في الحياة الدنيا، وللقضاء على أسباب الاختلاف وفتح طريق التكامل أمام مسيرة البشرية على المستوى الفردي والجماعي ـ وضع قانونين آخرين:
أحدهما: قانون الاستغفار والتوبة والإنابة والعفو؛ ليكون أمام الإنسان فرصة الرجوع عن أخطائه وذنوبه، حيث يتكامل بهذه التوبة، ويتفضل عليه الله ـ عز وجل ـ بالمغفرة.
ثانيهما: قانون الانتقام الدنيوي للجماعات عندما تتفاقم حالة الانحراف، وتتزايد الذنوب والجرائم والسيئات، ليكون هذا الانتقام عبرة للأجيال القادمة والأمم الآتية.
ومن هنا نجد أن القرآن الكريم يؤكد على هذين القانونين، سواء في العطاء النظري والفكري، أو في قصص الأنبياء والأقوام؛ من أجل معالجة هذه الأسباب وتوضيح الرؤية والطريق للناس نحو الكمال.
] وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون[ ([32]).
] ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار[ ([33]).
]أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون[ ([34]).
]والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون[ ([35])([36]).
كما حدد القرآن الكريم المعالم الأساسية التي يمكن أن تقوم عليها وحدة المجتمع البشري في نهاية المطاف، حيث ستصل مسيرة البشرية إلى هذا الهدف في أواخر أيامها الدنيوية كما وعد الله سبحانه وتعالى بذلك.

وسوف نتحدث عن هذه الأسس التي تقوم عليها الوحدة في نظر القرآن الكريم في الفصل الآتي عند الحديث عن الوحدة في المجتمع الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[14]  ـ البقرة:213.
[15]  ـ الجاثية: 23 ـ 24.
[16]  ـ نوح: 5 ـ 11.
[17]  ـ آل عمران: 19.
[18]  ـ النحل: 63 ـ 64.
[19]  ـ الشورى: 7 ـ 8.
[20]  ـ الأعراف: 11 ـ 18. وانظر: الحجر: 8 و 33 ـ 37، و ص: 80، والإسرار: 61 ـ 75 ـ 76.
[21]  ـ  البقرة 34.
[22]  ـ الروم: 41.
[23]  ـ القصص: 4.
[24]  ـ آل عمران: 7.
[25]  ـ البقرة: 78.
[26]  ـ المائدة: 90 ـ 91.
[27]  ـ البقرة: 170.
[28]  ـ المائدة 104.
[29]  ـ راجعها في سورة الأعراف: 28، والشعراء: 74 و 136، ولقمان: 21، وسبأ: 43، والصافات: 69، والزخرف 22.
[30]  ـ آل عمران: 169، وكذا الآية: 157، والآية: 160.
[31]  ـ التوبة: 111، وكذا الآيات: 24 و67 و 71. والآية: 1 من سورة الممتحنة، والآية: 41 و78 من سورة الحج، والآية: 95 من سورة النساء، والآية: 157 من سورة الأعراف، والآية: 17 من سورة لقمان.
[32]  ـ الأعراف: 164.
[33]  ـ آل عمران: 191 و188.
[34]  ـ المائدة: 80 , 94 , 36.
[35]  ـ الأنعام: 49، 30، 124.
[36]  ـ وراجع بهذا الصدد الآيات من السور التالية: طه: 82 و122، والفرقان: 70 و71، والقصص: 67.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد