قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

اللّه ومسألة الهداية والضلالة


الشيخ جعفر السبحاني

حينما نراجع القرآن الكريم نجد أنّ هناك طائفة من الآيات تصفه بأنّه تعالى هو الهادي وأنّ أمر الهداية بيده سبحانه، وفي المقابل توجد طائفة أُخرى من الآيات الكريمة تصفه سبحانه بأنّه هو المضلّ، بمعنى أنّه هو الذي يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
إنّ تحليل هذا التساؤل المهم وبيان أمر الهداية والضلالة المنسوبين إليه سبحانه لا يمكن أن يتمّ من دون جمع الآيات ودراستها بإمعان وتحليلها تحليلاً علمياً محكماً، ولكن  يمكن من خلال التفريق بين نوعين من الهداية: الهداية العامة، والهداية الخاصة، ومن خلال الإمعان في معنى الهداية الخاصة يتّضح جلياً معنى الإضلال والخذلان الإلهي.

الهداية العامّة
والمراد منها أنّه سبحانه من خلال نداء الفطرة الإنسانية ودعوة العقل، وبعث الرسل والأنبياء، يمهد طريق الهداية والسعادة أمام جميع الناس، وكذلك يبيّن لهم طريق الشقاء والانحراف، وقد تعلّقت الإرادة والمشيئة الإلهية بأن يقع جميع أفراد البشر تحت هذا النوع من الهداية والإرشاد، ويشهد على ذلك الكثير من الآيات المباركة كقوله تعالى:
( ...قَدْ جاءَكُمُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بَوَكِيل ) .([1])
فقد أشار القرآن الكريم في الآية المذكورة إلى الهداية  العامة وشموليتها بقوله: ( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) وإنّ هذه الهداية شاملة للجميع بحيث يتسنّى للكلّ أن يستفيدوا من تلك الوسائل الموصلة إلى الهداية، والتي تتمثل في «الفطرة والعقل وبعث الرسل» فإنّه سبحانه جهّز الجميع بتلك الطاقات والإمكانات ولم يحرم منها أحداً من الناس.

الهداية الخاصة
والمراد من هذا النوع  من الهداية هو الإمداد الغيبي الذي يوصل الإنسان إلى مراده بصورة أسرع، وهذا النوع خارج عن قدرات الإنسان وإمكاناته، وإنّه يختص بجملة من الأفراد الذين استضاءُوا بنور الهداية العامة واستفادوا منها، الذين لم يخالفوا نداء الفطرة ودليل العقل ودعوة الرسل، وهكذا استطاعوا وضع أنفسهم تحت مصب الرحمة الإلهية، وفي طريق نسيم الهداية الربانية لينالوا السعادة القصوى والكمال المطلق، يقول سبحانه في حقّ هذه الطائفة: ( وَالّذِينَ اهْتَدَوا زادَهُمْ هُدىً... ) .([2]) وقال سبحانه أيضاً: ( وَالّذِينَ جاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) .([3])
فإذا اتّضح أنّ المراد من الهداية هو تهيئة وتوفير سبل السعادة ووسائل الرشاد لمن استفاد من الهداية العامة وتثبيتهم وتسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة. وأنّ المراد من الضلالة هو منعهم وحرمانهم من هذه المواهب وخذلانهم في الحياة وإيكالهم إلى أنفسهم، من هنا نجد أنّ طائفة من آيات الذكر الحكيم التي تتعلّق بالضلالة تقول:
( وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمين... ) .([4])
و ( كَذلِكَ يُضِلُّ اللّه مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرتابٌ ) .([5])
( ...كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ الكافِرين ) .([6])

فهذه الآيات ونظائرها في القرآن الكريم كثيرة جداً حيث تبيّن وبوضوح تام العلّة والسبب في ضلال هؤلاء إذ تقول: لأنّهم ظالمون ومسرفون وكافرون ومرتابون و... فلذلك فهم ضالّون، وهذا يعني وبوضوح أنّهم لم يستفيدوا من تلك الإمكانات والمواهب التي منحهم اللّه سبحانه إيّاها في مرحلة الهداية العامة، فلذلك لم يقعوا مورداً للعناية الإلهية الخاصة ولم يشملهم ذلك اللطف وتلك الرحمة الإلهية حيث منعهم سبحانه من تلك المواهب التي أفاضها في مرحلة الهداية الخاصة، لأنّهم ـ وبسبب فسقهم وظلمهم وإسرافهم ـ لم يكونوا جديرين بهذا اللطف الإلهي الخارج عن العادة. وحال هؤلاء كحال من يسأل عن الطريق فيرشد إليه ويقال له: اسلك هذا الطريق، فإذا وصلت إلى المكان الفلاني فإنّك ستجد هناك علامة كذا، حينها  تكون قد وصلت إلى مرادك ومقصودك.
فلا ريب انّ هذا الفرد إنّما يستفيد من هذا الإرشاد في حالة واحدة وهي فيما إذا سلك ذلك الطريق ووصل إلى العلامة التي أُشير إليها، وهذا يعني أنّ الوصول إلى المقصد الثاني والاستفادة من العلامة التي هي دليله لا تتمّ إلاّ بعد الاستفادة من الدليل الأوّل، وهو طي ذلك الطريق الذي وصف له. وأمّا إذا لم يستفد من الدليل الأوّل ولم يسلك ذلك الطريق، أو أنّه سار على عكس الطريق الذي رسم ووصف له، فلا ريب أنّه لا يمكن له أن يستفيد من الدليل الثاني (العلامة) ثمّ الوصول إلى مراده.
إذاً ومن خلال هذا المثال الحسّي يتّضح لنا جلياً مفاد قوله تعالى: ( فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهدي مَنْ يَشاءُ ) ، فإنّ الآية تشير وبلا ريب إلى الهداية الخاصة، وأنّ المراد من الهداية هو توفير مقدّمات السعادة والهداية الخاصة، والمراد من الضلالة قطع تلك العناية الإلهية، ولا علاقة للآية أبداً بمسألة الجبر لا من بعيد ولا من قريب.
إذا اتضّح هذا الجانب من البحث، لابدّ من الإشارة إلى عامل آخر من عوامل الضلالة الذي يتعلّق بانحراف وضلال الإنسان فقط وهو:

العامل الثاني من عوامل الضلال
إنّ القرآن الكريم يذكر ـ وفي مناسبات مختلفة ـ مجموعة من العوامل التي لا تكون نتيجتها إلاّ الانحراف والضلال وإخراج الإنسان عن الصراط المستقيم والطريق القويم، وإنّ معرفة هذه العوامل لمن أراد السعادة والتكامل والفوز بالرضوان تكون سبباً للصلاح والفلاح والتكامل، لأنّه صحيح أنّ تلك العوامل مهلكة وأنّها سبب الانحطاط والانحراف لمن استسلم لها وأسلس لها العنان بحريته وإرادته فأهوت به في درك المهالك، إلاّ أنّ نفس تلك العوامل تكون سبباً لنجاة وهداية وتكامل المؤمنين الواعين والمنتبهين إلى خطورة الطريق ووعورة المسلك وتكون سبباً لثبات واستحكام أُسسهم الدينية والأخلاقية.
وذلك لأنّ الإنسان عندما يدرك انّ له رقيباً وعدواً يرصد حركاته وسكناته، فلا ريب أنّ هذا الإدراك وهذا الوعي لا يخلو من نفع وفائدة، لأنّ العدو سيكون السبب في معرفة الإنسان بنقاط الضعف والخلل الموجودة فيه ثمّ السعي لمعالجتها وإصلاحها.
وهكذا الكلام في المجتمع فإنّ المجتمع الذي تنتفي فيه الرقابة والمنافسة الشريفة، والمعقولة، فإنّه سيصاب لا محالة بحالة من الركود والخمول والتراجع  إلى الوراء ثمّ تكون عاقبة ذلك كلّه الاندثار والإبادة.
إنّ «الشيطان» هو العدو اللدود للإنسان، وإنّ هذا العدو الذي أقسم على غواية الإنسان وإضلاله ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعين * إِلاّ عِبادكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصين )([7])   فهذا  العدو الخطير ـ نفسه ـ يُعدّ سبباً لتكامل عباد اللّه المخلصين الذين عرفوه وأدركوا خططه ومكره وحبائله، وصمّموا على مواجهته وإفشال وإحباط جميع خططه وتمزيق جميع مصائده وتقطيع حبائله. وذلك لأنّ الإنسان عندما يدرك أنّ هناك عدواً خفياً يتحيّن الفرص للانقضاض عليه وإلقائه في الهلكة، حينئذ يبقى هذا الإنسان يقظاً منتبهاً يرصد ما حوله ويحاول الاستفادة من كلّ إمكاناته واستعدادته للخلاص من هذا العدو الماكر، وحينئذ سوف تتكامل قدراته وتترسّخ أُسسه وتقوى إرادته و....

ثمّ إنّ وجود العدو بالنسبة إلى الإنسان ـ فرداً أو جماعة ـ كوجود الميكروبات التي تحفّز في داخل الإنسان عوامل المقاومة والمواجهة ثم توفر له عوامل الاستقامة والثبات، ولذلك فإنّ الإنسان الذي يسعى للعيش في فضاء خال من كلّ أنواع الميكروبات ولا يتناول من الطعام والفواكه إلاّ المعقم، فلا ريب سوف يسقط أمام أيّ حالة يتعرض فيها لهجوم الميكروبات الخفية التي لم يلتفت إليها، مثله مثل الرواتع الخضرة ([8]) التي تسقط أمام النسيم فضلاً عن الأعاصير، ولذلك نجد الأطباء ـ اليوم ـ ينصحون بانتهاج طريق وسط بالنسبة إلى الميكروبات للحفاظ على سلامة البدن في مقابل تعرضه لهجوم تلك الموجودات الخفية.([9])
________________________________________
[1] . يونس: 108.
[2] . محمد: 17.
[3] . العنكبوت: 69.
[4] . إبراهيم: 27.
[5] . غافر: 34.
[6] . غافر: 74.
[7] . ص:82ـ 83.
[8] . الأشجار والأعشاب الغضّة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.
[9] . منشور جاويد:3/153ـ 156.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد