قرآنيات

تاريخية النص القرآني في الميزان (1)

 

السيد منير الخباز
﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
الآية الكريمة تتحدث عن عذاب دنيوي استحقَّته أمة النبي محمد، ولكن الله جل جلاله لم ينزل عليها العذاب لوجود النبي محمد   بين ظهرانيها، فلقد قال الله تبارك وتعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾، لكن استحقاق العذاب لم يرتفع عنهم وإنما أُخِرَ لما بعد وفاة النبي  .
والآية تتحدث عن موعد ذلك العذاب الدنيوي الذي استحقَّته أمة النبي محمد   ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، ثم من هي الأمة المعدودة التي أُخِرَ العذاب إلى وقتها؟ من هنا جاءت الروايات التي تتحدث عن تحديد الأمة المعدودة التي أُخِرَ عن يومها العذاب، فقد وردت عدة روايات في الكافي وفي إكمال الدين للشيخ الصدوق، وفي كتاب الغَيْبة للطوسي، وغيبة النعماني وغيرها عن الإمام الباقر   ”الأمة المعدودة قائم آل محمد وأصحابه“ فموعد حلول العذاب المستحق هو يوم ظهور القائم المهدي، وربما ذلك ينسجم مع ما تحدثت به الروايات الشريفة من أن هناك من العلامات الحتميَّة لخروجه عجل الله تعالى فرجه الشريف حصول صيحة في السماء يفزع منها أهل الأرض، والخسف بين مكة والمدينة.
إذن إن الروايات تتحدث عن أن المراد بالأمة المعدودة هم أصحاب المهدي «عج» وأنصاره وأوتاد دولته، وأعضاد دولته المباركة، هنا قد يُثار سؤال وهو أنه لماذا لا نجد ذكرًا للمرأة في أنصار المهدي «عج» أو في أصحابه أو في حركته المهدويَّة؟ ربما ينطلق ويتوسع هذا السؤال ليُقال بأننا لا نجد للمرأة حيوية واضحة وذكرًا واضحًا في حركة التاريخ الإسلامي بل في التراث الإسلامي لا نجد موقعًا مميزًا للمرأة فما هو سر ذلك؟

من هنا نتحدث في محورين:
المحور الأول: الموقعية المفقودة للمرأة في التاريخ الإسلامي.
كيف نتعامل مع التراث الإسلامي الذي لم يذكر موقعًا مميزًا للمرأة في حركة التاريخ الإسلامي؟ مثلًا إذا رجعنا للنصوص القرآنية ونظرنا إلى قوله جل جلاله ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، أو قوله تبارك وتعالى ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾، نجد أن التراث الإسلامي ميَّز الرجل على المرأة، واعتبره متميِّزًا حيث قال ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فكيف نتعامل مع هذا التراث؟ وفي ذلك هناك اتجاهان:
الاتجاه الأول: الاتجاه الحداثي.
كيف يتعامل هذا الاتجاه مع هذا التراث الذي يتحدث عن تميز الرجل عن المرأة؟ هذا الاتجاه يرتكز على ركيزتين:
الركيزة الأولى: الفرق بين الدين والتراث الفقهي.
هناك فرقٌ بين الدين وبين التراث الفقهي: فالفقه شيء، والدين شيء آخر، الدين هو الوحي الذي نزل من السماء على النبي محمد  ، وأما التراث الفقهي الموجود في الرسائل العمليَّة، وفي الكتب الفقهيَّة، هي أفكار اصطنعها الفقهاء كلٌ بحسب مقدرته وطاقته، فما صنعه الفقهاء وملؤوا به الكتب الفقهية هذا تراث فقهي قد يصح وقد يُخْطِئ، وليس هو الدين، الدين هو الوحي الذي نزل من السماء وأما ما فهمه الفقهاء هو مجموعة أفكار صنعتها عقولهم بمقدار طاقتهم وجهودهم وهذا ليس هو الدين، والشاهد على أن هناك فرقٌ بين الدين والتراث الفقهي هو تعدد القراءات، أي أن العلماء يختلفون في قراءتهم للنص، فهل كل قراءاتهم هي الدين؟ إذن اختلاف الفقهاء في قراءة النص دليل واضح على أن الدين يختلف عن التراث الفقهي، فمثلًا التراث الفقهي مبنيٌ على حرمة الشطرنج، ولكن الإمام الخميني قدس سره خالف هذا التراث الفقهي وأفتى بأن الشطرنج إذا تحوَّل من أداة قمار إلى أداة رياضية بحتة فلا يحرم التعامل به من دون قمار، وهذا الأمر يخالف التراث الفقهي، مثال آخر، التراث الفقهي يرى أن القرض بشرط يعتبر رِبا، أي أنني إن أقرضتُك مائة دينار شرط أن تعيدها لي مائة وخمسة دنانير يعد ربا، كل قرضٍ جرَّ نفعًا هو ربا، السيد محمد باقر الصدر قدس سره خالف هذا التراث الفقهي إذ قال: إذا كان الشرط شرطًا لتدارُك الخسارة لا لجلب المنفعة فهو ليس ربا، أي أنك إذا كنتَ خبيرًا بالسوق مثلًا وتعلم أن الدولار بعد عام ستقل قيمته، فلو قلت للمقترض من الآن أقرضك مائة ألف دولار ولكن بعد عام تُعيدها مائة ألف وخمس مائة دولار، وهذه الخمس مائة عوضًا عن النقص الذي سيحصل، فأنا من الآن آخذ زيادة عوضًا عن النقص، فهذا ليس ربا، الربا ما كان جلبًا لنفع وليس سدَّا لنقص، وهذا يخالف التراث الفقهي، مثال ثالث أن التراث الفقهي يرى أن المناط في ثبوت الشهر الشرعي رؤية الهلال بالعين المجرَّدة، ولكن لدينا مجموعة من الفقهاء تقول أن الأهم في الثبوت تحقق الرؤية سواء بالعين المجرَّدة أو بالعين المسلَّحة أو بالعين المجهرية. إذن تعدد القراءات الفقهية للنصوص هو بنفسه شاهد على أن الدين شيء والتراث الفقهي شيء آخر، فما يخالف التراث الفقهي لا يعد مخالفًا للدين، لأنه خالف فتاوى، ومجموعة أفكار صنعها عقلٌ بشري، ألا وهو عقل الفقيه.

الركيزة الثانية: تاريخية النص.
إن الاتجاه الحداثي يركِّز على هذه النقطة، ما معنى تاريخية النص؟ نأخذ الوحي الذي نزل على النبي محمد   مثلًا، الوحي هو شيء مقدَّس، هو مجموعة من التجليات التي نزلت على قلب النبي محمد  ، والوحي مطلقٌ لا محدود، ولكن بعد أن ترجمه النبي  ، فبعد أن ترجم النبي لغة الوحي إلى كلام عربي خرج الوحي من حالة القداسة إلى حالة الظاهرة البشرية، وكيف ذلك؟ أي أن هذا الكلام الذي صدر من فم النبي محمد  كلام عربي، صدر من فم بشري، بلغة بشرية أصبح ظاهرة بشريَّة، إذن الوحي تغيَّر من كونه كلامًا إلهيًّا مقدَّسًا إلى كونه ظاهرة بشريَّة، وبعد أن يتحول إلى ظاهرة بشرية - وهو كسائر الظواهر، كما يقول علماء علم الاجتماع - لا يمكن قراءة الظاهرة منفصلة عن ظروفها، فهذه الظاهرة لا يمكن فصلها عن ظروفها، ومثال ذلك صلح الحديبية لا تستطيع أن تعتبره قانونًا لكل زمان؛ لأن صلح الحديبية كان ظاهرة بشريَّة في يومٍ معيَّن لا يمكن قراءتها منفصلة عن الظروف التي أحاطت بها، كذلك هزيمة المسلمين يوم أُحد، كانت ظاهرة بشرية لا يمكن قراءتها منفصلة عن ظروفها.
إذن هذا القرآن الذي بين أيدينا ظاهرة بشرية، لأنه كلام بشري صادر من فم بشري، بلغة بشرية، فبما أنه ظاهرة فهو مثله، مثل صلح الحديبية، ومثل هزيمة المسلمين يوم أحد، لا يمكن أن يُقرأ منفصلًا عن الظروف، لأجل ذلك عندما نأتي مثلًا لهذه الآية ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾، فنقول أن هذا النص ظاهرة بشرية، ولا تقرأ إلا بقراءة ظروفها، إذن هذا النص صدر في ظروف معيَّنة فإذن هو مُؤطَّر بإطار تلك الظروف التي صدر فيها، إذن فُضِّل الرجل على المرأة عندما كانت المرأة فلاحة، أو ربة منزل، أُميَّة، أما الآن لا يُعقل تفضيل رجل يعمل فلاحًا أو كنَّاسًا على امرأة، أصبحت وزيرًا، أو أستاذًا في الجامعة، أو أصبحت عالـمًا من العلماء، فهو تفضيل غير ممكن، إذن هذه النصوص القرآنية منوطة بظروفها التي صدرت فيها وهذا ما يُسمَّى بتاريخيَّة النص. إذن الاتجاه الحداثي تعامل مع النصوص الواردة في المرأة بل في جميع الأحكام بنظرة تاريخية النص.

الرد على هذا الاتجاه:
المناقشة الأولى: القرآن صياغة إلهية.
إذا كانت هذه الصياغة العربية للقرآن الكريم صادرة من النبي محمد   نفسه أي أن الوحي نزل على النبي   مجموعة أفكار وهو الذي قام بصياغتها بلسانه العربي، صحيح أن الوحي خرج وتحول إلى ظاهرة بشرية كان وحيًا بعدما صاغه النبي   أصبح ظاهرة بشرية؛ لأنه كلام بشري يخرج عن القداسة، ويخرج عن الإطلاق ويصبح محدودًا، أما إذا كانت هذه الصياغة اللفظية نزلت من السماء، أي أن القرآن نزل معنىً ولفظًا إذن هذه الصياغة ليست صياغة بشريَّة، ليس كلامًا بشريًّا صدر من فم بشري، بل لا دور للنبي محمد   في صياغة أو ترجمة، فالمسألة ليست مسألة ترجمة أو صياغة فقد كان دوره   التَّلقِّي فقط، هو شخصٌ يتلقَّى الوحي معنىً ولفظًا ويبلغه كما تلقَّاه، فأنت عندما تأتي إلى الآيات الكريمة سواء كنت تعتبرها من كلام النبي   أو من قرآن الكريم نفسه، فالنبي محمد   عند الحداثيين وغيرهم أنه صادقٌ أمين، لا يقول كذبًا، هذه الآيات القرآنية تتحدَّث وتقول ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ هو نزل هكذا، بلغته العربية، فالنبي   لم يقم بترجمة أو صياغة وقال تبارك وتعالى ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾إذن الصياغة صياغة إلهية وليست صياغة بشريَّة، وقال جل جلاله ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾، بل حتى عند الشعراء تجدهم أحيانًا يُلْهَمون اللفظ وليس فقط المعنى، وهذا التصور نتصوره في الشعراء ونعطِّله عند الأنبياء؟!، إذن بالنتيجة لو كان هذا القرآن صياغة بشرية سيكون ما تقدَّم صحيحًا، وأما إذا كانت الصياغة إلهية لم يخرج الكلام عن كونه وحيًا إلهيًا، متسمًا بصفة القداسة والإطلاق واللامحدوديَّة.

المناقشة الثانية: مرجعية أهل اللغة في فهم النصوص.
لو افترضنا أن هذا القرآن كلام بشري، ما هو المرجع في فهم نصوص القرآن؟ نرجع إلى العقلاء، والعقلاء إذا عرضت عليهم أي نص، فما المرجع في فهمه؟ فلو صدر نصًا قانونيًا من البرلمان لمن يرجع العقلاء في فهم النص؟ المرجع عند العقلاء في فهم أي نص إلى أهل اللغة في ذلك النص، مثال ذلك إذا وجدت قصيدة في الأدب الفرنسي، يرجع إلى أهل اللغة الفرنسية في فهمها، وإن كانت القصيدة قبل ألف عام، وكذلك الأمر إن كانت القصيدة في الأدب الفارسي يرجع إلى أهل اللغة الفارسية في فهمها، إذن المرجع عند العقلاء في فهم النص هم أهل اللغة، لغة ذلك النص، من هنا جاء القرآن بنصٍ عربي، والمرجع في فهمه هم أهل اللغة العربية، وليس المرجع في فهم النخبة من المثقفين، أو العلماء، أو الأدباء، المرجع في فهم النص القرآني إلى أهل اللغة الذين نزل بلغتهم النص، خصوصًا أن القرآن لم ينزل على النخبة بل نزل القرآن لعموم المسلمين.
أنت تُرُبِّيتْ على اللغة العربية، فلذلك لا تشعر بالقواعد التي تمر بها للفهم، اللغة العربية ليست لغة استرساليَّة أو تلقائيَّة، اللغة العربية مبنيَّة على قواعد ومرتكزات، وهذه القواعد منها قواعد عامة ومنها قواعد خاصة، فالقواعد العامة هي ما بحثه علماء الأصول، في عمل الأصول، في بحث الأصول اللفظيَّة، أحكام المطلق والمقيَّد، أحكام الخاص والعام، أحاكم الناسخ والمنسوخ، هذه القواعد العامة قواعدٌ منتزعةٌ من اللغة العربية؛ لفهم أي نص. وهناك قواعد خاصة مذكورة في علم اللغة والأدب، اللغة العربية لا يمكن فهمها بشكلٍ تلقائي واسترسالي، بل هناك قواعد عامة وخاصة إذا لاسلكها الإنسان فهم النص العربي كما يفهمه أهل اللغة، من هنا جاءت الحاجة إلى الرجوع للفقهاء، نحن لا نقول أن الفقيه له قدسية خاصة، ولا نقول أن التراث الفقهي هو الدين، بل نقول لا يمكنك فهم هذا النص الوارد في القرآن إلا عبر القواعد المستفادة من اللغة العربية، والخبير بتلك القواعد هو الفقيه، فالرجوع إلى الفقيه لأنه خبير بتلك القواعد، تمامًا مثل أي علم آخر، فمثلًا هل تستطيع أن تحكِّم رأيك في قصيدة للمتنبي أو لأبي العلاء المعرِّي؟ لا تستطيع ذلك، فتقول أن هذا علم بُنِيَ على قواعد معينة فالمرجع في نقد النص إلى تلك القواعد وخبرائها، كذلك اللغة، وفهمها وفهم نصها يبتني على قواعد، والمرجع في فهم النص إلى تلك القواعد، إذن المرجع إلى الخبير بتلك القواعد، والخبير بقواعد فهم النصوص الواردة في القرآن والسنُّة هو الفقيه ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد