قرآنيات

الهرمنيوطيقا ومعضلة فهم النص (2)

 

الشيخ محمد هادي معرفة
يقول الأستاذ أبو زيد: «لقد حاولت نظريّة الأدب- في مسار تطوّرها التاريخي- أن تعالج جوانب مختلفة من هذه المعضلة، وتوقّفت كلّ نظريّة- في إطار ظروفها التاريخيّة - عند جانب أو أكثر من هذه الجوانب، مؤكّدة أهمّيته على حساب الجوانب الأخرى.. واستعراض سريع لهذه النظريّات يؤكّد أنّ جانب علاقة النصّ بالمفسّر ظلّ جانباً مهملاً، أو غائماً في أحسن الأحوال.
فقد بدأت دراسة الفنّ عامّة، والأدب خاصّة، بتحليل العلاقة بين الإبداع والعالم الواقعي الذي نعيش فيه، وانتهت على يد كلّ من أفلاطون وأرسطو- وحتّى العصر الحديث فيما عرف بالكلاسيكيّة- إلى تأكيد دور الواقع الخارجيّ على حساب الفنّان أو المبدع، فيما عرف بنظريّة المحاكاة. وانتهت هذه النظريّة في تفسير العمل الفنّي والأدبي إلى محاولة البحث عن الدلالات الخارجيّة التي يشير إليها العمل! واتّحدت هذه الدلالات الخارجيّة عند أفلاطون مع الحقيقة الفلسفيّة المتوارية وراء عالم الظواهر..» [ أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل: 17- 18].
وهكذا جرى على منواله أصحاب الفكرة الكلاسيكيّة الحديثة التي يمثّلها المفكّر الألماني «شليرماخر» (1843 م) في موقفه الكلاسيكي بالنسبة للهرمنيوطيقا. ويعود إليه الفضل في أنّه نقل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتي، ليكون علماً أو فنّاً لعمليّة الفهم وشروطها في تحليل النصوص. وهكذا تباعد شليرماخر بالتأويليّة بشكل نهائي عن أن تكون في خدمة علم خاصّ، ووصل بها إلى أن تكون علماً بذاتها، يؤسّس عمليّة الفهم، وبالتالي عمليّة التفسير.
وتقوم تأويليّة «شليرماخر» على أساس: أنّ النصّ عبارة عن وسيط لغوي ينقل فكر المؤلّف إلى القارئ، وبالتالي فهو يشير في جانبه اللغوي إلى اللغة بكاملها، ويشير في جانبه النفسي إلى الفكر الذاتيّ لمبدعه. والعلاقة بين الجانبين- فيما يرى شليرماخر- علاقة جدليّة. وكلّما تقدّم النصّ في الزمن صار غامضاً بالنسبة لنا، وصرنا- من ثمّ- أقرب إلى سوء الفهم لا الفهم. وعلى ذلك لا بدّ من قيام «علم» أو «فنّ» يعصمنا من سوء الفهم، ويجعلنا أقرب إلى الفهم «الأمر الذي جهد عليه علماء الأصول منذ عهد بعيد، فوضعوا لفهم النصّ معايير ومقاييس يجمعها قواعد علم الأصول (مباحث حجّية الظواهر) على ما سننبّه».
وينطلق شليرماخر لوضع قواعد الفهم من تصوّره لجانبي النصّ: اللغوي والنفسي. فيحتاج المفسّر للنفاذ إلى معنى النصّ إلى موهبتين: الموهبة اللغويّة، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشريّة، وهل يوجد ثمّة قواعد لكيفيّة تحقيق ذلك «الأمر الذي أجاب عليها علماء الأصول إجابة إثباتيّة منذ أمد بعيد، كما عرفت».


هناك إذن في أيّ نصّ جانبان: جانب موضوعيّ يشير إلى اللغة، وهو المشترك الذي يجعل عمليّة الفهم ممكنة، وجانب ذاتيّ يشير إلى فكر المؤلّف، ويتجلّى في استخدامه الخاصّ للّغة. وهذان الجانبان يشيران إلى تجربة المؤلّف التي يسعى القارئ إلى إعادة بنائها، بغية فهم المؤلّف أو فهم تجربته.
هذان الجانبان- الموضوعي والذاتي، أو اللغوي والنفسي- بفرعيهما التاريخي والتنبؤي «حيث المفسّر قد يبدأ بالجانب اللغوي ويقوم بعمليّة إعادة بناء تاريخيّة للنصّ، وهي تعتدّ بكيفيّة تصرّف النصّ في كلّية اللغة، وتعتبر المعرفة المتضمّنة في النصّ نتاجاً للّغة. ولهذه البداية جانب آخر، وهو إعادة البناء التنبّؤي الموضوعي، وهي تحدّد كيفيّة تطوير النصّ نفسه للّغة»، يمثّلان القواعد الأساسية، والصيغة المحدّدة لفنّ التأويل عند «شليرماخر»، وبدونهما لا يمكن تجنّب سوء الفهم.
نعم، إنّ مهمّة الهرمنيوطيقا هي فهم النصّ كما فهمه مؤلّفه، بل حتّى أحسن ممّا فهمه مبدعه «وهو واضع اللغة، أو العرف الذي تعارف استعمال النصّ».
وبذلك حاول «شليرماخر» أن يجعل من الهرمنيوطيقا «فنّاً» مستقلّاً بذاته عن أيّ مجال. فإنّ كلاسيكيّته تتبدّى في حرصه على وضع قوانين ومعايير لعمليّة الفهم، ومن ثمّ لعمليّة تفسير النصوص. إنّه يحاول أن يتجنّب «سوء الفهم المبدئي» في أيّ عمليّة تفسير.
وكذا البدء بالجانب الذاتي له جانبان: الأوّل هو إعادة البناء الذاتي التاريخي، وهو يعتدّ بالنصّ باعتباره نتاجاً للنفس. أمّا الجانب الآخر وهو الذاتي التنبّؤي فهو يحدّد كيف تؤثّر عمليّة الكتابة في أفكار المؤلّف الداخلية.
ولكنّه في هذه المحاولة لتجنّب «سوء الفهم» يطالب المفسّر- مهما كانت الهوّة التاريخيّة التي تفصل بينه وبين النصّ- أن يتباعد عن ذاته وعن أفقه التاريخيّ الراهن؛ ليفهم النصّ فهماً موضوعيّاً تاريخيّاً. إنّه يطالب المفسّر- أوّلاً- أن يساوي نفسه بالمؤلّف، وأن يحلّ مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتي والموضوعي لتجربة المؤلّف من خلال النصّ. ورغم استحالة هذه المساواة من الوجهة المعرفيّة، فإنّ شليرماخر يعتبرها الأساس الأصلي للفهم الصحيح.


ومن ثمّ نغمة رومانسيّة تغلف كلاسيكيّة شليرماخر، تتجلّى في اعتباره النصّ تعبيراً عن نفس المؤلّف، وفي مطالبته المفسّر أن يكون ذا طاقة تنبّؤيّة، إلى جانب معرفته باللغة، حتّى يمكنه اكتشاف الجوانب المتعدّدة للنصّ. وبهذه الطاقة التنبّؤيّة يسعى الإنسان لفهم الكاتب إلى درجة أن يحوّل نفسه تماماً إليه، أي يكون هو الكاتب!
هذا هو المنهج الذي رسمه شليرماخر لإمكان فهم النصّ، على ما أراده المؤلّف إرادة جدّ، وراء دلالة النصّ الظاهريّة. وبذلك كان شليرماخر ممهّداً لمن جاء بعده، خاصة «ديلثي» و«جادامر».
إذ بدأ ديلثي ممّا انتهى إليه شليرماخر من البحث عن تفسير وفهم صحيحين في مجال العلوم الإنسانية، بينما بدأ جادامر من معضلة سوء الفهم المبدئي التي حاول شليرماخر- في تأويليّته- أن يتجنّبها. وبهذا يعدّ شليرماخر- بحقّ- أباً للهرمنيوطيقة الحديثة، وللمفكّرين الذين جاءوا بعده، سواء بدأوا من موضع الاتّفاق أم من موضع الاختلاف معه [المصدر السابق: 23- 24].
ويتلخّص الهرمنيوطيقا في أنّ لفهم النصّ عن طريق التأويل والاجتهاد، في سبيل العثور على مغزاه والبلوغ إلى قصواه، ضوابط وأصولاً ينبغي مراعاتها، ليكون الفهم صحيحاً ومقبولاً إلى حدّ ما.
كما ويذهب شليرماخر إلى أنّ مهمّة المفسّر هو الوصول إلى فكرة المؤلّف، والتي اختلج في باله وأدلى به عبر النصّ إلى القارئين، ليكون دور الناقد والمفسّر دور الكاشف النابه، والذي يسعى بكلّ جهده وراء العثور على حقيقة المراد من النصّ، سعياً على أصول وقواعد تمهّد له سبيل الكشف.


ومن أهمّ هذه القواعد هي معرفة الفضاء الذي عاشه المؤلّف، والذي تجاوبت معه شخصيّته الثقافيّة والفكريّة، حتّى يمكن النفاذ من خلال هذه الفرجة إلى ذهنيّة المؤلّف والأفكار التي كانت تخالج باله.
فعليه أن يجتاز الفجوة التي بينه وبين المؤلّف، ويجعل نفسه في مثل الظروف والشرائط التي اكتنفت المؤلّف في ظرفه الخاصّ، ومن خلال ذلك المنظر فليشاهد العلاقة الرابطة بين المؤلّف والنصّ بوضوح.
الأمر الذي اصطلح عليه «علم الأصول» بقرائن الأحوال، وهي شواهد زمنيّة عاصرت صدور النصّ في ظرفه الخاصّ، واصطلح عليه المفسّرون بمعرفة أسباب النزول، ولولاها لما أمكن فهم كثير من آي القرآن المرتبطة بمناسبات ومؤاتيات كانت قيد التاريخ.
وتوضيحاً لهذا الجانب- وعلى ضوء قواعد علم الأصول- نقول: إنّ للألفاظ الموضوعة دلالة ذاتيّة يعيّنها الوضع اللغوي أو العرف الخاصّ، فإذا قرع سمعك لفظ، وأنت تعرف وضعه اللغوي أو ما تعارف عليه أهل العرف، فإنّ المعنى الموضوع له يتبادر إلى ذهنك لا محالة، ومع غضّ النظر عمّا يختلج ببال لافظه.
ومثل هذه الدلالة الذاتيّة للألفاظ- بما أنّها دلالة لغويّة بحتة- لا تفي علاجاً لمعرفة مراد المتكلّم، مراده الجدّي، ما لم ترفقها أصول «هي أصول وضوابط تكفّل بيانها مباحث حجّية الظهور في علم الأصول» تنفي احتمال الخلاف، وذلك حيث لا تكون هناك قرائن حاليّة أو مقاميّة توجب صرف الكلام عن ظاهره‏ البدائي، ومن ثمّ كانت معرفة الفضاء الذي صدر الكلام في ظلّه ضرورة لإمكان فهم النصّ فهما صحيحاً، ومستنداً إلى ضوابط معرفة الكلام.
هذا، ولا سيّما النصّ القرآني كانت له شاكلته الخاصّة، هي شاكلة خطاب لا شاكلة كتاب «لكلّ من الشاكلتين مميّزاتها الخاصّة- تعرّضنا لها في مجال سابق- وكان من المميّزات الشاخصة لأسلوب الخطاب: الاعتماد على قرائن خارجيّة يعهدها المخاطب، أمّا أسلوب الكتاب فيقضي بإرداف شواهد الدلائل مع النصّ، وفي متناول القارئ أينما حلّ وارتحل عبر الأزمان»، وأسلوب الخطاب يعتمد أحيانا وربّما أكثريا على شواهد الأحوال- وهي المناسبات التي استدعت صدور مثل هذا النصّ- ممّا يقضي بضرورة الوقوف عليها؛ لإمكان فهم النصّ والبلوغ إلى مغزاه.
فالاكتفاء بمدلول النصّ اللغوي، بعيدا عن ملاحظة شواهد الأحوال والمناسبات المعاصرة لنزول القرآن مجازفة خطيرة، ربّما أدّت إلى التحميل على القرآن، وكونه تفسيرا بالرأي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد