قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد ابو القاسم الخوئي
عن الكاتب :
مرجع شيعي كبير، ورئيس الحوزة العلمية في النجف

القرآن وأسرار الخليقة (2)

 

السيد أبو القاسم الخوئي
ومن الأسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كروية الأرض فقال تعالى:
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ [الاعراف: 137].
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ [الصافات: 5]؛ ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ [المعارج: 40].
ففي هذه الآيات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها، وفيها إشارة إلى كروية الأرض، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحًا لا تكلف فيه ولا تعسف. وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار اليه، لأن الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الأراضي فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئًا فشيئًا باعتبار كروية الأرض وحركتها.
وفي أخبار أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السّلام وأدعيتهم وخطبهم ما يدلّ على كروية الأرض.


ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام قال:
«صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلّى المغرب إذا غربت الشمس، وأصلّي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت: إنما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم» [الوسائل: 4/ 179، الحديث: 4848].
يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الأرض، ويقرّه الإمام عليه السّلام على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية.
ومثله قول الإمام عليه السّلام في خبر آخر: «إنما عليك مشرقك ومغربك» [الوسائل: 4/ 198، الحديث: 4912].


ومن ذلك ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السّلام في دعائه عند الصباح والمساء:
«وجعل لكل واحد منهما حدًا محدودًا، وأمدًا ممدودًا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد» [الصحيفة السجادية الكاملة، دعاؤه عليه السّلام عند الصباح والمساء].
أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك‏ العصور وهو كروية الأرض، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدًا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك، تلطّف ـ وهو الإمام العالم بأساليب البيان ـ بالإشارة إلى ذلك على وجه بليغ، فإنه عليه السّلام لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار، وينقص النهار تارة أخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل، لاقتصر على الجملة الأولى: «يولج كل واحد منهما في صاحبه» ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية: «ويولج صاحبه فيه» إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه، لأن ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية، ففي هذا دلالة على كروية الأرض، وأن إيلاج الليل في النهار- مثلاً- عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين. ولو لم تكن مهمة الإمام عليه السّلام الإشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة، ولكانت تكرارًا معنويًا للجملة الأولى.
ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي، وخارج عن طوق البشر.


وكفى بالقرآن دليلاً على كونه وحيًا إلهيًا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرّج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة، فإنه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالاً لقائل، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه، فممّا لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي، ومقتبسة من أنواره، لأن من يعرف تاريخ جزيرة العرب- ولا سيما الحجاز- لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع‏ الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: «أنه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين». [مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد] بل أعود فأقول: إن تصديق علي عليه السّلام- وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة، والمعارف وسائر العلوم- لإعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئًا عن الجهل والاغترار، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة، وإليه تنتهي جميع العلوم الإسلامية وهو المثل الأعلى في المعارف، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف. وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقًا صوريًا ناشئًا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال، كيف وهو منار الزهد والتقوى، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة، مع علمه بعاقبة الأمر إذا عزله عن الولاية. وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقًا حقيقيًا، مطابقًا للواقع، ناشئًا عن الإيمان الصادق. وهذا هو الصحيح، والواقع المطلوب.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد