الشيخ جوادي آملي
إنّ القرآن الكريم عندما يُبيّن علاقة العبد بالعبادة فهو يعدّ العبادة هدف الخلق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾[1] فالإنسان كالبذرة الّتي هدفها المتوسّط هو أن تكون شجرة وهدفها الأعلىٰ هو أن تكون مثمرة ولها أهداف اُخرىٰ أمامها أيضاً.
وصحيح أنّ بعض آيات القرآن الكريم تؤكّد علىٰ أنّ العبادة هي الهدف من خلق الإنسان، لكنّ هذا هدف متوسّط وليس هدفاً نهائيّاً وأخيراً، لأنّ الهدف الأعلىٰ من العبادة والّذي تعتبر العبادة وسيلة لتحقيقه هو بلوغ اليقين ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾[2]
ومهما يكن فإنّ العبادة هي هدف المخلوق وليست هدفاً للخالق. فليس الأمر كما يُتوهّم بأنّ الله خلق البشريّة ليصل إلىٰ هدف معيّن كأن يكون معبوداً، حتّىٰ إذا عصاه العاصون لم يتحقّق للهِ هدفه، وذلك لأنّ الله سبحانه غنيّ محض ويستحيل علىٰ الغنيّ المحض أن يفعل فعلاً ليحقّق به هدفاً مّا.
ولهذا يصرِّح القرآن الكريم بأنّ الناس جميعاً وسائر العبّاد في الأرض لو كفروا بالله فانّه لايحطُّ من كبريائه مثقال ذرّة: ﴿إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيد﴾.[3]
توضيح ذلك: إنّ كلّ فاعل يأتي بالفعل لأجل تحقيق كمال مّا. وذلك الكمال إذا لم يكن مطلقاً فهو يتطلّع إلىٰ كمال أعلىٰ وهكذا تستمرّ السلسلة إلىٰ أن تنتهي بالهدف الّذي هو الكمال المطلق. وحينئذٍ فإذا صدر من الكامل المحض المطلق فعل ما، فلا يتصوّر أنّه بذلك الفعل يبغي تحقيق كمال ما لأنّه الكمال المحض وهو الهدف الوحيد والأخير لجميع السالكين نحو الكمال. فإذا فعل فعلاً كي يحصل علىٰ الكمال المفقود لديه فهذا يعني أنّ ما فرضناه كمالاً محضاً لم يكن كمالاً محضاً، بل إنّه موجود محدود ولذلك يعمل من أجل رفع ما لديه من نقص لكي يصل إلىٰ الكمال المفقود.
وليس هناك خارج الكمال المطلق كمال حتّىٰ يحقّقه بواسطة فعل ما. ولهذا يصف القرآن الكريم الله سبحانه بأنّه المبدأ الفاعليّ والهدف النهائيّ للخلق: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر﴾.[4] فكما أنّه لا يوجد فاعل آخر معه كذلك لا يوجد هدف آخر وراءه.
وخلاصة القول هي أنّ العبادة من وجهة نظر القرآن الكريم هدف الخلق، وحيث إنّه في كلّ لحظة يصل فيض الخالق إلىٰ ما سواه: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾[5]، فالعبادة أيضاً لا حدّ لها، وكما أنّ حدوث العبادة اقترن بحدوث الخلق، فبقاؤها أيضاً مرتبط ببقاء الخلق، والإنسان الّذي يترك العبادة أثناء مسيره نحو الكمال فهو مثل الشجرة الّتي تتوقّف عن النموّ والرشد، وكما سبق ذكره بنحو مجمل فإنّ العبادة ليست هدفاً نهائيّاً لخلق الإنسان، كما إنّ صيرورة الشيء شجرة ليست هدفاً نهائيّاً للبذرة بل هي هدف متوسّط، والهدف النهائيّ لها هو الإيناع والإثمار، والعبادة أيضاً بالنسبة للإنسان هدف متوسّط لانهائيّ والهدف منها أيضاً هو الوصول إلىٰ اليقين: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾[6]
فالعبادة هي الطريق لنيل اليقين، والإنسان ما لم يصل إلىٰ اليقين فهو معرّض لخطر الزوال والتغيير لكن عندما يصل إلىٰ اليقين فهو يستقرّ ويطمئن.
والإنسان بواسطة العبادة يتبوّأ المقام الشامخ لليقين، وما دام مرتبطاً بالعبادة فهو من أهل اليقين، ولو ترك العبادة لحظة لتدنّس بالمعصية ولو أنكر العبادة لكفر وارتدَّ ووقع في الحرمان الأبدي. فمعنىٰ قوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ ليس هو أنّ من وصل إلىٰ اليقين فقد استغنىٰ عن العبادة، لأنّ كلمة (حتّىٰ) في هذه الآية الكريمة لأجل بيان منفعة وبركة العبادة وليس لبيان حدّها حتّىٰ يقال إنّ العبادة تتوقّف عند الوصول إلىٰ اليقين. فالآية توضّح طريق الوصول إلىٰ نعمة اليقين.
فالعبادة الّتي هي هدف الخلق هي العبادة الّتي لها ثمرة كاليقين، والعابدون الّذين لا نصيب لهم من صفاء الباطن ونورانيّة الشهود، فليس لديهم مثل هذه العبادة. وإنّهم كمثل الشجرة الّتي نمت وأزهرت لكنّها ما أينعت ولا أثمرت، وحول هؤلاء يقول القرآن الكريم: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين﴾[7]، فالّذي يصلّي لأجل رفع التكليف مبتلىٰ بهذا الويل وأمّا التاركون للصلاة فلهم ويل أشدّ.
وخلاصة القول إنّ معنىٰ الهدف النهائيّ ليس هو أنّ ببلوغه يُترك أصل العبادة، وذلك لأنّ هذا الهدف الأصيل قائم علىٰ أساس العبادة. إذن فكيف يبقىٰ ذلك الهدف السامي مع ترك العبادة؟ كثمر الشجر الّذي بقاؤه ببقاء الشجرة، فلا يعني كون الفاكهة هدفاً نهائيّاً للشجرة أنّ الشجرة تزول وتقطع إذا ظهرت عليها الفاكهة، وعند التمييز بين (الحدّ العدمي) و(الهدف) يتّضح أصل الموضوع جيّداً. نعم إذا كان المقصود من كلمة (حتّىٰ) في الآية المذكورة هو (الحدّ العدمي) فإنّ المراد من اليقين حينئذٍ هو الموت قطعاً. وبهذا التحليل يتّضح معنىٰ الأحاديث الواردة في هذا الباب.
ـــــــــــــــ
[1] . سورة الذاريات، الآية 56.
[2] . سورة الحجر، الآية 99.
[3] . سورة ابراهيم، الآية 8.
[4] . سورة الحديد، الآية 3.
[5] . سورة الرحمٰن، الآية 29.
[6] . سورة الحجر، الآية 99. استشهد بعض المفسّرين بالآية: ﴿حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِين﴾ (سورة المدّثر، الآية 47) وحاول تفسير اليقين في آية ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ بمعنىٰ الموت، فقال انّ الآية تقول واعبد ربّك الىٰ الموت في حين انّ اليقين ليس معناه الموت وإن كان الموت من الاُمور اليقينيّة والحتميّة، وبعده أيضاً يحصل للإنسان اليقين، ولهذا يمكن أن يطبَّق اليقين علىٰ الموت.
[7] . سورة الماعون، الآية 4.
11-05-2020
هدف الخلق وطريق اليقين
الشيخ جوادي آملي
إنّ القرآن الكريم عندما يُبيّن علاقة العبد بالعبادة فهو يعدّ العبادة هدف الخلق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾[1] فالإنسان كالبذرة الّتي هدفها المتوسّط هو أن تكون شجرة وهدفها الأعلىٰ هو أن تكون مثمرة ولها أهداف اُخرىٰ أمامها أيضاً.
وصحيح أنّ بعض آيات القرآن الكريم تؤكّد علىٰ أنّ العبادة هي الهدف من خلق الإنسان، لكنّ هذا هدف متوسّط وليس هدفاً نهائيّاً وأخيراً، لأنّ الهدف الأعلىٰ من العبادة والّذي تعتبر العبادة وسيلة لتحقيقه هو بلوغ اليقين ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾[2]
ومهما يكن فإنّ العبادة هي هدف المخلوق وليست هدفاً للخالق. فليس الأمر كما يُتوهّم بأنّ الله خلق البشريّة ليصل إلىٰ هدف معيّن كأن يكون معبوداً، حتّىٰ إذا عصاه العاصون لم يتحقّق للهِ هدفه، وذلك لأنّ الله سبحانه غنيّ محض ويستحيل علىٰ الغنيّ المحض أن يفعل فعلاً ليحقّق به هدفاً مّا.
ولهذا يصرِّح القرآن الكريم بأنّ الناس جميعاً وسائر العبّاد في الأرض لو كفروا بالله فانّه لايحطُّ من كبريائه مثقال ذرّة: ﴿إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيد﴾.[3]
توضيح ذلك: إنّ كلّ فاعل يأتي بالفعل لأجل تحقيق كمال مّا. وذلك الكمال إذا لم يكن مطلقاً فهو يتطلّع إلىٰ كمال أعلىٰ وهكذا تستمرّ السلسلة إلىٰ أن تنتهي بالهدف الّذي هو الكمال المطلق. وحينئذٍ فإذا صدر من الكامل المحض المطلق فعل ما، فلا يتصوّر أنّه بذلك الفعل يبغي تحقيق كمال ما لأنّه الكمال المحض وهو الهدف الوحيد والأخير لجميع السالكين نحو الكمال. فإذا فعل فعلاً كي يحصل علىٰ الكمال المفقود لديه فهذا يعني أنّ ما فرضناه كمالاً محضاً لم يكن كمالاً محضاً، بل إنّه موجود محدود ولذلك يعمل من أجل رفع ما لديه من نقص لكي يصل إلىٰ الكمال المفقود.
وليس هناك خارج الكمال المطلق كمال حتّىٰ يحقّقه بواسطة فعل ما. ولهذا يصف القرآن الكريم الله سبحانه بأنّه المبدأ الفاعليّ والهدف النهائيّ للخلق: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر﴾.[4] فكما أنّه لا يوجد فاعل آخر معه كذلك لا يوجد هدف آخر وراءه.
وخلاصة القول هي أنّ العبادة من وجهة نظر القرآن الكريم هدف الخلق، وحيث إنّه في كلّ لحظة يصل فيض الخالق إلىٰ ما سواه: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾[5]، فالعبادة أيضاً لا حدّ لها، وكما أنّ حدوث العبادة اقترن بحدوث الخلق، فبقاؤها أيضاً مرتبط ببقاء الخلق، والإنسان الّذي يترك العبادة أثناء مسيره نحو الكمال فهو مثل الشجرة الّتي تتوقّف عن النموّ والرشد، وكما سبق ذكره بنحو مجمل فإنّ العبادة ليست هدفاً نهائيّاً لخلق الإنسان، كما إنّ صيرورة الشيء شجرة ليست هدفاً نهائيّاً للبذرة بل هي هدف متوسّط، والهدف النهائيّ لها هو الإيناع والإثمار، والعبادة أيضاً بالنسبة للإنسان هدف متوسّط لانهائيّ والهدف منها أيضاً هو الوصول إلىٰ اليقين: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾[6]
فالعبادة هي الطريق لنيل اليقين، والإنسان ما لم يصل إلىٰ اليقين فهو معرّض لخطر الزوال والتغيير لكن عندما يصل إلىٰ اليقين فهو يستقرّ ويطمئن.
والإنسان بواسطة العبادة يتبوّأ المقام الشامخ لليقين، وما دام مرتبطاً بالعبادة فهو من أهل اليقين، ولو ترك العبادة لحظة لتدنّس بالمعصية ولو أنكر العبادة لكفر وارتدَّ ووقع في الحرمان الأبدي. فمعنىٰ قوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ ليس هو أنّ من وصل إلىٰ اليقين فقد استغنىٰ عن العبادة، لأنّ كلمة (حتّىٰ) في هذه الآية الكريمة لأجل بيان منفعة وبركة العبادة وليس لبيان حدّها حتّىٰ يقال إنّ العبادة تتوقّف عند الوصول إلىٰ اليقين. فالآية توضّح طريق الوصول إلىٰ نعمة اليقين.
فالعبادة الّتي هي هدف الخلق هي العبادة الّتي لها ثمرة كاليقين، والعابدون الّذين لا نصيب لهم من صفاء الباطن ونورانيّة الشهود، فليس لديهم مثل هذه العبادة. وإنّهم كمثل الشجرة الّتي نمت وأزهرت لكنّها ما أينعت ولا أثمرت، وحول هؤلاء يقول القرآن الكريم: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين﴾[7]، فالّذي يصلّي لأجل رفع التكليف مبتلىٰ بهذا الويل وأمّا التاركون للصلاة فلهم ويل أشدّ.
وخلاصة القول إنّ معنىٰ الهدف النهائيّ ليس هو أنّ ببلوغه يُترك أصل العبادة، وذلك لأنّ هذا الهدف الأصيل قائم علىٰ أساس العبادة. إذن فكيف يبقىٰ ذلك الهدف السامي مع ترك العبادة؟ كثمر الشجر الّذي بقاؤه ببقاء الشجرة، فلا يعني كون الفاكهة هدفاً نهائيّاً للشجرة أنّ الشجرة تزول وتقطع إذا ظهرت عليها الفاكهة، وعند التمييز بين (الحدّ العدمي) و(الهدف) يتّضح أصل الموضوع جيّداً. نعم إذا كان المقصود من كلمة (حتّىٰ) في الآية المذكورة هو (الحدّ العدمي) فإنّ المراد من اليقين حينئذٍ هو الموت قطعاً. وبهذا التحليل يتّضح معنىٰ الأحاديث الواردة في هذا الباب.
ـــــــــــــــ
[1] . سورة الذاريات، الآية 56.
[2] . سورة الحجر، الآية 99.
[3] . سورة ابراهيم، الآية 8.
[4] . سورة الحديد، الآية 3.
[5] . سورة الرحمٰن، الآية 29.
[6] . سورة الحجر، الآية 99. استشهد بعض المفسّرين بالآية: ﴿حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِين﴾ (سورة المدّثر، الآية 47) وحاول تفسير اليقين في آية ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ بمعنىٰ الموت، فقال انّ الآية تقول واعبد ربّك الىٰ الموت في حين انّ اليقين ليس معناه الموت وإن كان الموت من الاُمور اليقينيّة والحتميّة، وبعده أيضاً يحصل للإنسان اليقين، ولهذا يمكن أن يطبَّق اليقين علىٰ الموت.
[7] . سورة الماعون، الآية 4.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة