إننا مأمورون، بما أننا نتصف بالإيمان، مأمورون بالتدبر في كتاب الله عز وجل، ونحن محرومون، أو نحرم أنفسنا، من هذا الخير الوفير، ألا وهو التدبر في القرآن الكريم. نقرأ القرآن لأجل الثواب، أو لأجل إهداء الثواب للموتى، وهذا أمر حسن، ولكننا مأمورون بما هو أحسن، مأمورون بالتدبر في الكتاب، بمعنى تدبير أنفسنا بالكتاب. التدبر بمعنى التصريف، الليل إذا أدبر يعني انصرف، ولو أدبارهم يعني انصرفوا، وهذا من باب الإدبار. منه من نفس هذه المادة، أخذت يدبر الأمر في السماء والأرض، يدبر الأمور، لا يجعلها واقفة ولا يجعلها ساكنة، ثم استوى على العرش، يعني يدبر الأمر، يعني يصرفه، ولا يجعله واقفًا ولا ساكنًا. كما أن التدبير عبارة عن التصريف، تصريف الأمور، أيضًا. أفلا يتدبرون القرآن بمعنى التصريف، وهذا له صورتان.
الصورة الأولى: أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، يعني أفلا يتأملون في تدبير القرآن لآياته. فإن تدبير القرآن لحقائقه ولمحكماته وتصريفه بتصريف بنحو لا يتحقق من غير الله. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (١).
الصورة الأخرى، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(٢)، هنا تدبير القرآن بأي معنى؟ يعني عرض أنفسنا على القران {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يعني دبر نفسك بالقرآن اجعل نفسك مدبراً لأمورك وشؤونك بالقرآن، اعرض نفسك على القرآن، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} بمعنى أن نعرض أنفسنا بشهواتها بغرائزها بنزعاتها بشيطانتها برحمانيتها نعرض هذه النفس المضطربة نعرض هذه النفس المتلونة نعرض هذه النفس المترددة نعرضها على آيات القرآن لنصلحها بالقرآن لنصلحها بهذه الآيات الشريفة {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، لاحظوا الضمير جعل الأقفال من القلوب ما قال أم على القلوب أقفالٌ، قال {أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، بمعنى أن هذه الأقفال من القلوب القلب يجعل على نفسه قفلاً، القلب يعمي نفسه عن ذكر الله (القلب)، القلب بعض القلوب نتيجةً للإفراط والإسراف في الذنوب نفس القلب يجعل على نفسه قفلاً نفس القلب يجعل على نفسه غشاوةً {أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، {إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(٣). إذن نحن بين أمرين بين متدبر وبين مدبر، المدبر هو الذي ينساق مع عمى القلب وانصرافه، والمُتَدَبِّرُ هو الشخص الذي يحاول أن يعرض قلبه على القرآن، ليُعالجه باياته. وقد قال الله تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ"، وهذا الشخص الذي يتدبر. كما قال تعالى: {فإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}(٤)، هذا هو المُدْبِر. وبالتالي، هناك مُدْبِرٌ لا يسمع القرآن، وهناك مُتَدَبِّرٌ يُعرض قلبه ونفسه على القرآن. ونحن نريد أن نكون من المتدبرين، لا من المدبرين، فقد قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}". وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "أما الليل فصَافُونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يَرْتِلُونَهُ تَرْتِيلًا يَحْزَنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ"(٥)، وهذا الحزن هو التدبر، فهم يحزنون به على أنفسهم.
ليس قراءة القرآن هي القراءة الشائعة التي تركز على اللحن والنغم، ولكنها يجب أن تكون قراءة تحزينية، تثير فينا الحزن والانتباه والتفاتنا إلى أمراضنا وآفاتنا وأدواتنا، لأننا جميعًا نحتاج إلى الدواء، وجميعنا نعاني من الأمراض.
كلنا أدواء، كلنا أمراض، ونريد استثارة هذه الأمراض بقراءة القرآن. نريد قراءة القرآن بطريقة تثير فينا الحزن، وتجعلنا ننتبه وننظر إلى أمراضنا ومشاكلنا ونبحث عن حلول لها. عرض النفس والقلب على القرآن يوجه الاهتمام إلى أدوية القلب وأمراضه، ويجدون بها الدواء الذي يحتاجونه. هذا هو التدبر، والذي يجدون به الدواء الذي يحتاجونه. يجب أن نركز على الآيات القرآنية، وخاصةً تلك التي تتحدث عن مصير الإنسان. هذه الآيات تجعل القلب يرتعد، مثلما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}(٦). هذه هي الآيات التي تجعل القلب يرتجف وينبض.كما في قوله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تَوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُكَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(٧)، سكرة الموت، هذا التعبير للإشارة إلى أن الموت يتضمن هذين الضدين، إفاقة من سكرة الدنيا والتفات إلى أهوال الآخرة، وأهوال البرزخ، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}(٨). نحن في غفلة، نحن في غفلة عندما نقتصر على قراءة القرآن لأجل الثواب، فنحن في غفلة.عندما لا نعرض أنفسنا على القرآن، فنحن في غفلة، لقد قال الله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(٩)، ونتيجة لهذه الغفلة قست قلوبنا، ابتعدنا عن ذكر الله، لم نشعر باللذة في قراءة القرآن، كما جاء في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَّتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}(١٠).
اللهم نبهنا من نومة الغافلين، واجعلنا من الذاكرين، والمتدبرين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.
—--------
١-سورة النساء، الآية ٨٢.
٢- سورة محمد، الآية ٢٤.
٣- سورة الحج، الآية ٤٦.
٤- سورة الروم، الآية ٥٢.
٥- نهج البلاغة، ص ١٦٢.
٦- سورة الحديد، الآية ١٦.
٧- سورة ق، الآية ١٦-١٩.
٨- سورة ق، الآية ١٩-٢٢.
٩- سورة ق، الآية ٢٢.
١٠- سورة البقرة، الآية ٧٤.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)
أزمة العلمانية مع الإسلام
تفسير القرآن الكريم بمعناه اللّغوي
البسملة