قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

موسيقى القرآن، النّظم والجاذبيّة (2)

أين تكمن جاذبية القرآن؟

يكمن العامل المهم في جاذبية القرآن في «السبك»، و«النظم»، و«الموسيقى». هذه العناصر الثلاثة تشكل القاعدة الأساس و«البنية السحرية والجاذبة» للقرآن الكريم. وتتميز هذه العناصر القاعدة، في كونها متداخلة فيما بينها، بحيث لا يمكن تفكيك بعضها عن بعض، ولا يمكن الحديث عن دور كل واحدة في هذه الجاذبية بحيث تنفرد عن الأخرى.

1ـ السبك يعني (الصياغة) وتشكيل (الشكل الهندسي) للكلام أو الخطاب. والقرآن قد أتى بسبك وصياغة لم تعهدها القريحة الأدبية في المجتمع العربي خاصة، والمجتمع الإنساني عموماً. فصياغة الكلام في القرآن شيء جديد امتاز بأنه يحمل مزايا الشعر والسجع، لكنه ليس شعراً، ولا سجعاً، كما أسلفنا القول أكثر من مرة. قد أخذ الوزن، وليس الأوزان بما هي عروض الشعر؛ لأنه استغنى عن القوافي بالفواصل، وجاء في مستوى أرقى من الشعر والسجع والنثر الأدبي.

2ـ النظم، وهو الربط بين الحروف في الكلمة، وبين الكلمات في الجملة، وبين الجمل في الآية وفي السورة، كنظم اللؤلؤ في العقد، وهو أن تضع الألفاظ بعضاً إلى جانب الآخر بالتبع، وبشكل يراعي التناسب بينها، بلحاظ النغمة الصوتية، وبلحاظ ما تحمله الكلمات من تراتبية الخصوصيات في المعنى والشكل. ولعل القول برعاية النظم في الشعر قد يكون أمراً طبيعياً باعتبار النظم من المقومات الذاتية للشعر، أما أن يراعى النظم في نثر تختلف مواضيعه وتتوسع أبعاده المفهوماتية، فهذا على الظاهر شيء في غاية الصعوبة، لكننا نرى أن القرآن، الذي اختلف عن الشعر من حيث الأوزان والعروض، قد أتى في كامل النظم وأبهاه. ففي كل جملة وفي كل تركيب نحن أمام نظم وتأليف متجانس ومنساب، تتشكَّل في جمله الكلمات كأنك أمام لوحة فنية رسمت في عالم حيث لا ريشة ألوان ولا أنامل فنان، وتسمع إلى نغمات حروف كلماته كأنك تستمع إلى سيمفونية تعزف أوتارها في عالم حيث لا إنس ولا جان، «فتبارك الله أحسن الخالقين».

3ـ الموسيقى هي ألحان ونغمات الكلمات والعبارات، والتي أوجدت الانسجام بين السبك والنظم. فصياغة الجمل والعبارات في القرآن، مع مراعاة النظم المعجزة، أوجدت موسيقى ـ ونحن هنا نعبر عن النغمات والإيقاعات الصوتية في القرآن بالموسيقى تسامحاً، وإلا فإن ما نسمعه من أصوات في القرآن هي لعَمري أعظم وأجمل مما يمكن أن توحي به لفظة الموسيقى ـ، ونحن نرى كيف أن حروف «المد» و«اللين» تجمع بين الحماسة والتهييج أثناء تلاوة القرآن، فتخلق في نفس المستمع إليه النشوة والابتهاج، وإظهار هذه المحاسن الصوتية للحروف من واجب القرّاء، والذين يتلون القرآن على مسامع الناس؛ لأن صورتها وجمالها تظهر مشافهة.

وبهذا اللحاظ فإن على قارئ القرآن أن يكون على معرفة كاملة بقواعد التجويد، وفنّ القراءة، وأن يقف على أسرارها؛ حتى يعمل على إظهار الإعجاز البياني للقرآن بشكل دقيق.

القرآن خطاب بليغ وفصيح، وبموسيقى ساحرة كل السحر والجمال، والواجب إخراج هذه الخصوصيات وإبرازها إلى عالم الظهور، وأن يتمكن القارئ من خلال هذا الإبراز من تملك فؤاد المستمع، وأن يجذب روحه إليه، ويجعلها في قبضة الآيات والعبارات القرآنية، وبالتالي يجعلها تتجرد عن عالم المادة إلى عالم المعاني والمفاهيم، ومن ثم يعيش بحقٍّ مقولة «إن من البيان لسحراً».

 

نغمات القرآن

إن نغمات الحروف وموسيقى الكلمات في القرآن تبعث على خلق الفرح والسرور في النفس، وتزرع فيها الاطمئنان والإحساس بالأمن، وتدفع عن النفس كل مشاعر الاضطراب واللااستقرار والخوف الذي ينتابها من المجهول، لتجعلها تحلق في عالم الاستقرار والثبات، عالم المعاني، حيث تنكشف حقيقة الطريق، وتتضح معالمها، فيزول كل ذلك الضباب، ويرتفع كل الإبهام والغموض.

إن نغمات القرآن تمثّل في وجودها الحقيقي غذاء الروح، تفتح أمام النفس الإنسانية الأمل، وتمنح الإنسان السعادة، وترفعه إلى مستوى الطهارة والقداسة، من دون أن يكون مديناً لها بشيءٍ سوى الطاعة.

والسؤال: لماذا تبقى هذه النغمات الأبدية والموسيقى الروحية مستورة عن القلوب، وخفية عن المتناول؟ أبداً لا يجب أن يكون الموقف كذلك، بل يجب إظهارها، وإخراجها إلى عالم الظهورات، أن تتمتع بها النفس الإنسانية، وترقى بها الآذان السامعة إلى حيث الكمال. إن الواجب يفرض على الجميع ممّن لهم المعرفة بها أن يجعلوها في متناول البشرية، أن يفهّموها للناس، وأن يجعلوها تعيش الخلود، وهو حقها الطبيعي.

والملاحظ أن الأحاديث النبوية قد كثر فيها الأمر بتحسين الصوت في قراءة القرآن، وأن يكون صوت القارئ به حسناً ومؤثّراً، فقد قال (ص): «لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن».

وفي حديث آخر: «إن من أجمل الجمال الشَّعر الحسن، ونغمة الصوت الحسن». وقد قرئت «الشَّعر» كما يحتمل «الشِّعر»؛ باعتبار قرينة الصوت الحسن، ولم يرغب (ص) في الصوت الحسن إلاّ متعلِّقاً بقراءة القرآن. وعن الإمام محمد الباقر (ع): «ورجع بالقرآن صوتك، فإن الله يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً»([1]).

بل نجد الأمر يتخذ بعداً آخر في هذه الأحاديث والروايات، حيث ينفي الانتماء إلى الإسلام عمّن لم يحسِّن صوته في قراءة القرآن. ومن هذه الروايات : «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن»([2])، و«تغنّوا بالقرآن، فمن لم يتغنَّ بالقرآن فليس منّا».

ولعل التقنية الصحيحة هو أن يتمّ تعلم فنون الموسيقى قبل الانتقال إلى تعلم قراءة القرآن، وهو نفس الأسلوب المتّبع في مصر، فالقارئ الراغب في الانتماء إلى «دار القرآن» مطالب بالحصول على شهادة من «دار الفنون»، بمعنى أن قارئ القرآن لابدّ أن يكون على اطّلاع كامل بفنون الموسيقى ونغماتها المختلفة، فالاستفادة من هذه النغمات في القرآن شيء مستحسن ومطلوب، ومن ليس له الحسّ الفني لا يمكن أن يجوّد القرآن أو أن يتلوه بحيث يظهر المحاسن الصوتية والإعجاز البياني له.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو المسوِّغ الذي من خلاله يتم التراجع عن قراءة القرآن بالصوت الحسن، ويعمل بالتالي فيه على استبعاد النغمات الصوتية للحروف والكلمات القرآنية، مما جعل مسألة قراءة القرآن لا تختلف عن قراءة باقي النصوص والكتب، ويلاحظ بالفعل خروج قرّاء إلى المجتمع يقرؤون القرآن قراءة لا تخضع لوزن أو لحن، مما جعل من مسألة «الإعجاز البياني» مسألة ثقيلة على الآذان، والقلوب لا تطيق الاستماع إلى قارئ القرآن من دون استحسان؟!

 

الموسيقى من وجهة نظر الفقهاء

هل الموسيقى محرَّمة لذاتها حتى نبحث عن مجوِّز إذا تعلق الأمر باستثناءات مثل تلاوة القرآن، والحدي، وحفلات العرس، أم أن الموسيقى ليست محرمة إلا إذا قُرِنت بما يجعلها من نوع «اللهو» و«الباطل»، والتي هي ضمن عوامل الانحراف الأخلاقي وما يتبعه من انحراف في التدين؟

إن إطلالة على المسائل المرتبطة بهذا الموضوع تضعنا أمام عناوين تأخذ موضع الموسيقى، وتنطلق في توصيف الحكم الشرعي من خلال العنوان الجديد، بدل العنوان الأصل «اللغو»، «اللهو»، و«الباطل».

وهذه العناوين الثلاثة تعني في حقيقتها الانشغال بأمور عبثية، خالية من كل فائدة، لا يقصد منها سوى الترفيه، الذي لا يجلب مصلحة، ويشغل قلب وفكر الإنسان عن الأمور الجدّية، ولا نتيجة ترجى منه، بل يكون في أغلب الأحوال نافذة تجلب الويلات، وتسقط من قيمة الإنسان ومن شرفه، كما أن اللهو واللغو والباطل يكون مانعاً من وصول الإنسان إلى السعادة الأبدية، وحجر العقبة في طريق الترقي والاستكمال.

 

تفصيل المجمل

 أتى لفظ «الزور» في اللغة بمعنى الكذب؛ لأنه مائل عن طريق الحق، وزور الشيء في نفسه…يعدل به عن طريقة تكون أقرب إلى قبول السامع» ([3]).

وقد رأينا في الروايات أن أحد مصاديق «الزور» مجالس الغناء والطرب التي كانت سائدة في زمان دولة العباسيين، والتي تعتبر أكبر عامل للانحراف، وعاملاً في انشغال الطاقم الحكومي، الذي بدل أن يسهر على خدمة الرعية وحفظ البلاد وتدبير شؤون الدولة كان يقيم الليالي الحمراء، ويمرح في مجالس الغناء والطرب.

فعلى هذا النحو تكون مجالس الغناء والطرب قد استعملت أنواع الفحشاء والمنكرات، وتجد فيها العازفين من كلا الجنسين، ويشاركهم القينات والمغنون. وكذلك كان الملوك والأمراء الذين تسلّطوا على رقاب الأمة يقيمون تلك المجالس، والتي كانت في ظل تلك الأجواء تكتظ بأنواع الفساد والمعاصي التي يهتز لها عرش الرحمن.

ومما لا شك فيه فإن الموسيقى في تلك المجالس لن تشتمل على ما يذكّر بالله وبيوم الحساب، وبشكل عام لن تدعو إلى مكارم الأخلاق، وإنما ستكون من جنس ما يقع في تلك المجالس من فساد وفحشاء، بل ستكون الموسيقى عزفاً على أوتار إبليس، ودعوةً إلى مزيد من المجون والفجور، وهذا النوع من الموسيقى محكوم بالحرمة بشكل قاطع، ومصداق كامل لقول «الزور».

في روايات أخرى وجدنا التعبير عن الموسيقى بـ «لهو الحديث» أو «اللهو» أو «الباطل». وقد تمّت مذّمتها وتوبيخ فاعلها في العديد من الآيات، ومنها: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ (لقمان: 72)، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 17 ـ 18).

وفي هذه الروايات نلاحظ ثمانية عناوين كلها قابلة للانطباق على الموسيقى الحرام. ومع الإشارة إلى هذه العناوين لا يبقى مجال لإعمال التعبد أو مصادرة أي من الاصطلاحات المذكورة، بل إن غرضنا هو بيان «صحة انطباق العناوين» على الغناء أو عدم صحة انطباقها. ومن هذه الروايات:

1ـ قال الإمام الصادق (ع): «الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وهو ممّا قال الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾»([4]).

2ـ روى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن أبي عباد ـ وكان مستهتراً بالسماع ويشرب النبيذ ـ قال: سألتُ الرضا (ع) عن السماع؟ فقال: لأهل الحجاز (أو العراق) فيه رأي، وهو في حيّز الباطل واللهو، أما سمعت الله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾»([5]).

3ـ عن يونس بن عبد الرحمن يقول: سألت الخراساني (يعني الإمام الرضا) عن الغناء، وقلت: إن العباسي ذكر عنك أنك ترخص في الغناء؟ فقال: كذب الزنديق، ما هكذا قلتُ له، سألني عن الغناء فقلت: إنّ رجلاً أتى أبا جعفر (الإمام الباقر)، فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان، إذا ميَّز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ مع الباطل، فقال: قد حكمت».

وما نستنتجه من مجموع هذه الروايات أن الموسيقى (الغناء) حرمت في الحالة التي تقترن فيها بواحدة من العناوين التي تم ذكرها مقرونة بها. ويلاحظ أنه في كل الأسئلة التي طرحت في الروايات، وما أعطي لها من جواب، أن الاستدلال بالآيات كان لغرض إظهار «علة الحكم»، وبيان أن الحرمة إنما تنطبق على ما كان متداولاً حينها من «مجالس الغناء». ووفق القاعدة الأصولية، التي تقول: «تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعليّة»، «أو قاعدة «مناسبة الحكم للموضوع»، فالأجوبة ضمن الروايات المذكورة لم تكن على سبيل الإطلاق، ليكون كل الغناء حراماً، بل إذا انطبقت عليه إحدى تلك الأوصاف (العناوين) المحرمة.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنه لو قال: «نعم، الموسيقى حرام» فإن الحرمة الذاتية للموسيقى ستكون حينها مسلَّمة، لكن الجواب لم يكن بهذا الشكل، وإنما كان بشكل آخر، حيث أجاب المعصوم عن سؤال المتسائل: «ألا تعلم أن الله تعالى جعل اللهو فسقًا واللغو باطلًا». لذا فإن الجواب بهذا الشكل مشعرٌ بعلية الوصف، بمعنى أن الغناء إذا تلبس باللهو والباطل حكم بالحرمة، أما أن يقال بإطلاق حكم الحرمة تعبّداً ـ كأن يقول القائل: ولو لم يكن الغناء من نوع الباطل واللغو أو اللهو فإنني أعرض عنه مطلقاً تَعَبُّداً ـ فهذا موقف يخرج عن عرف التعامل مع الظهورات، كما أنه يخالف القواعد الأصولية والمرتكزات العرفية.

ولعل ما يؤيِّد ما ذهبنا إليه من عدم إطلاق حكم الحرمة مجموعة من الروايات التي تستثني أنواعاً من الغناء (الموسيقى). ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر:

1ـ عن علي بن جعفر أنه سأل أخاه (موسى بن جعفر) عن الغناء (الموسيقى) في مجالس الأفراح والأعياد وحفلات الزواج؟ فأجاب (ع): «لا بأس، ما لم يعص به»([6]).

2ـ وروى أبو بصير عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه سئل عن الأجرة التي تتقاضاها المغنية في حفلة عرس العروس، وحيث لا يتواجد فيه الرجال ـ بمعنى أن المجلس ليس مختلطاً بين الرجال والنساء ـ فأجاب (ع) بأنه لا إشكال فيه([7]).

 

نتيجة البحث

إن الموسيقى متى كانت وسيلة لتعليم المعارف الإلهية العالية أو تعريف الناس بالأخلاق الإسلامية فهي حينها لا تدخل ضمن مجال اللهو، وليست من اللغو والباطل. لذا فإن قراءة القرآن وفق ألحان ونغمات خاصة يدخل ضمن مساحة المستثنيات من الحرمة، بل تجري فيه أصالة الحلية والبراءة.

كذلك تستثنى من الحرمة الموسيقى التي تقرأ بها الأشعار العرفانية، والتي بواسطتها تبرز الجنبة الجمالية لمضامين هذه الأشعار، وتصبح ذات جاذبية، ومؤثِّرة بشكل إيجابي في استمالة القلوب، وجلب توجُّهها نحو التسامي إلى العلو والكمال.

وختاماً أليس الصوت الجميل والموسيقى الجذابة جزءًا من مواهب الطبيعة، وواحدة من جماليات هذا الكون البديع التي يعيش الإنسان في أحضانها، فتملأ عليه دنيا، وتوجهه نحن عظمة خالق هذا الكون، بل تعطيه الأمل في طلب سعادة أكبر وأجمل؟! فإن موهبة بهذه الرقة والجمال كفيلة إذا استعملت في طريق الحق بأن تحمل القلوب إلى طلب المعاني، والدفع بها إلى طلب كمالها، بالامتثال لأوامر الله والانتهاء عن نواهيه في كل ما جاء به القرآن في آياته وعباراته الإلهية، التي لا يتقن التعبير عنها سوى الصوت الحسن، وباللّحن الحسن، الذي هو جزء من هذا القرآن، وواحدة من نقاط الإعجاز فيه. فإن إعجاز القرآن يكمن في ما تراه العين من حروف، وما تسمعه الأذن من أصوات ونغمات. والموسيقى جزء من الأمور الفطرية في هذا الكون، والعقل لا يملك أن يحرم الفطرة، وما حكم به العقل حكم به الشرع، وإلا صار التسلسل، وهو باطل.

الموسيقى جزء من النعم الإلهية التي زين بها هذا الكون، وزين بها كتابه المجيد، كما أنها واحدة من الطيبات التي أحلها الله لعباده، حيث قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾، وأتى الجواب الإلهي: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (الأعراف: 32 ـ 33). لذا فكلّ ما يدخل ضمن دائرة الطيبات يحكم العقل والشرع بحليته، وكل ما يدخل ضمن دائرة الفحشاء، التي هي من مصاديق القبح والظلم، فقد حرمه العقل والشرع، ولا استثناء في الموضوع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) المصدر السابق 2: 615، ح13.

([2]) بحار الأنوار 89: 190 ـ 191.

([3]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 3: 36.

([4]) وسائل الشيعة 12: 228، ح16.

([5]) المصدر السابق 12: 229، ح19.

([6]) قرب الإسناد: 121.

([7]) وسائل الشيعة 12: 85، ح3.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد