قرآنيات

من فلسفة التّأويل عند صدر المتألّهين الشّيرازي

الشيخ عبد الغني العرفات

 

ملخّص رؤية صدر المتألّهين حول التأويل

١) يؤمن الملّا صدرا بضرورة التأويل؛ لأن هدف التأويل هو المعرفة الشهوديّة التي هي معرفة الله تعالى وهذه هي العلّة الغائية للتأويل. ومستنده في ذلك: أنّ لكلّ آية ظهرًا وبطنًا وأنّ طبقات القرآن مرتّبة على طبقات العالم السبع المرويّ عن الباقر (عليه السلام). وهذا يعني تكثّر المعنى القرآني).

٢) يرفض الملّا صدرا المعنى الشائع للتأويل وهو: حمل الكلام على غير معناه الموضوع له. بل التأويل هو ما يناله العارف المتعرّض للنفحات الإلهيّة. وهو عين ما قاله غادمر وهو أن التأويل معضلة وجوديّة، غير أنّ اللّغة وسيطٌ ونحوٌ من الوجود الذي يكون موضوع التأويل. يعبّر عن هذا غادمر بانصهار الآفاق (انصهار المؤول والنص). كذلك يرى ملا صدرا أن الكيان اللغوي ظاهرة من ظواهر الوجود إلا أنه معبر إلى حقائق الوجود).

٣) تعني الرمزيّة أنّ ثمة دلالة خفيّة للكلام على معنى غير المعنى الظاهر، أي أنّ اللفظ واحد والمراد منه متعدّد. وهذا معناه استعمال اللفظ في أكثر من معنى. وقد أخذه ملا صدرا عن الغزاليّ وصرّح بذلك. غير أن الفارق بين ما يراه الغزاليّ من تعدّد المعنى وما يراه الملا صدرا، أن الملّا يرى المعنى واحدًا وله مراتب بناء على رؤيته من وحدة الوجود والتشكيك في الوجود).

٤) المعنى الواحد له تمثّلات بحسب عوالم الوجود. فإذا كانت العوالم ثلاثة فالمعنى الواحد يتمثّل في كل عالم بشكل مختلف.

وترجع هذه النظريّة لمحيي الدين ابن عربي وقد أبرزها الملّا صدرا. فالإنسان له عوالم والقرآن له عوالم وتتطابق عوالم الإنسان مع عوالم القرآن وجودًا فالتأويل وجودي.

أتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر).

 

تعريف التأويل عند صدر المتألهين

يرى الملّا صدرا أنّ معنى التأويل الوارد في القرآن الكريم هو الوصول إلى الحقائق العينيّة الخارجيّة. وقد ذهب إلى نفس الرأي السيّد الطباطبائيّ في الميزان. ولماذا ذهب الملا صدرا إلى أن معنى التأويل هو: الوصول إلى الحقائق العينية الخارجيّة؟

الجواب: هذا مبنيّ على عدّة أفكار مسبقة تبنّاها، منها:

١) فكرة التطابق بين الكتاب التكويني والكتاب التدويني .

فالكتاب التكويني عبارة عن عوالم هي  :

-عالم الطبيعة 

 -عالم المثال

-عالم العقل

-العالم الإلهي

وهذه العوالم ليست منفصلة، فما في عالم المثال موجود في عالم الطبيعة، وموجود في عالم العقل والعالم الإلهي. وهكذا القرآن التدويني له عوالم ومراتب لأنّه مطابق للكتاب التكويني: فهناك مرتبته كقرآن وهي أعلى المراتب، وهو حين صدوره من عالم الأمر، وهناك مرتبته ككتاب حين صدوره من عالم الخلق. وكما أن القدر يسبق القضاء فكذلك القرآن يسبق الكتاب. ومراتب التكوين متطابقة مع مراتب التدوين).

٢) ومنها تبنّي أن للقرآن مقاصد (أهداف) فدخل بها القرآن واعتبر الآيات تصب في هذا الهدف.

قال: "سر نزول القرآن ومقصده الأقصى دعوة إلى الملك الأعلى ربّ الآخرة والأولى، والغاية المطلوبة فيه تعليم ارتقاء العبد من حضيض النقص والخسران إلى أوج الكمال والعرفان، وبيان كيفيّة السفر إلى الله طلبًا لمرضاته".

والمقاصد ستة:

١- تعريف الحق المدعو إليه

٢- تعريف الصراط المستقيم

٣- تعريف الحال عند الوصول للآخرة

٤- تعريف أحوال الأنبياء للاعتبار

٥- حكاية أقوال الجاحدين وبيان جهلهم

٦- تعريف كيفيّة عمارة المراحل إلى الله 

وقد أخذها من الغزالي من كتابه جواهر القرآن ودرره ص١١.

وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: (رحم الله امرأً.. علم من أين وفي أين وإلى أين)

ولابدّ أنّ القرآن اهتم بالله والمعاد وشؤون الحياة والطريق إليه، وهداة الطريق وهم الأنبياء.

ونتيجة كلامه هذا أنّ القرآن لا يمسه إلا المطهرون، بينما الكتاب يدركه كل أحد؛ لأنّ القرآن كلمات لكنّها كلمات تكوينيّة كما نقول عيسى كلمة الله ..الخ.

فللوصول إلى الله قوس صعود يمرّ بمراحل وعوالم الوجود، وكذلك للمصحف قوس نزول وصعود.

ونزوله: من كونه قرآنًا إلى تشخّصه في كتاب هذا قوس نزوله.

فالوصول لحقيقة القرآن هو قوس الصعود إلى حقيقته العينية الخارجية .

 

هل كان كتاب تفسير الملا صدرا من كتب التأويل؟

تحت عنوان التفسير العرفاني الصوفي (الرمزي الإشاري) في كتابه (التفسر والمفسّرون) يرى الشيخ هادي معرفة أن تفاسير أهل الذوق العرفانيّ ليست من التفسير، ولا من التأويل، وإنّما هي واردات قلبيّة وسوانح خطرت لهم بالمناسبة ومع سماع الآية.

مثلًا عندما يسمع الإنسان قوله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) ينسبق الذهن إلى ضرورة تهذيب النفس فيخاطب نفسه ما بالك أنت منشغلة عن فرعنة نفسك ..

فهي ظاهرة تداعي معاني.

 

الفرق بين القرآن والفرقان

يرى ملّا صدرا أنّ نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله) عبارة عن عقلٍ بسيط متّحد مع جميع المعقولات وهذا الاتحاد في مقام قاب قوسين أو أدنى.

وفي هذا المقام تكون نفسه عبارة عن قلم الحق تعالى وكلام الحق تعالى وكلمة الله التامّة، ويعبّر عن هذا بالقرآن.

وفي مقام آخر نفسه (صلى الله عليه وآله) عبارة عن لوحٍ فيه تفاصيل العلوم المرسومة من قبل قلم الحق. ويعبر عن هذا بالكتاب الفرقاني.

فهذا المصحف الذي بين أيدينا :

١) هو قرآن بوجه

٢) وهو فرقان بوجه

٣) وهو كلام الله بوجه

٤) وكتابه بوجه

والـمُنزَّل على سائر الأنبياء كما يرى ملّا صدرا هو الكتاب لا الكلام وهو الفرقان وليس القرآن. انظر (أسرار الآيات ص ٣٧).

وقال: الكلام غير قابل للنسخ بينما الكتاب قابل للنسخ (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب).

والقرآن هو كتاب الله وكلام الله باعتبارٍ من الاعتبارات.

وأما سائر الكتب السماوية فهي ليست بكلام الله بل كتب يدرسونها.

والقرآن من جهة كونه كتابًا فيه أحكام يتساوى في الاهتداء به العوام والخواص والأنبياء والأمم (هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان) 

وأما القرآن فلا يُدركه إلّا أهل الله خاصة (وعلَّمك ما لم تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا).

وقال ص ٣٥: "وهذا العلم المشار إليه هو علم الوراثة لا علم الدراسة يعني أن علوم الأنبياء (عليهم السلام) لدنية فمن كان علمه مستفادًا من الكتب والرواية والدراسة فليس هو من ورثة الأنبياء لأنّ علومهم لا تُستفاد إلّا من الله كما قال تعالى: (اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم).

وقال ملّا صدرا أيضًا: "ولا تظنّ أنّ التعليم من عند الله يختصّ بهم ولا يتجاوز غيرهم فقد قال تعالى (واتقوا الله ويعلّمكم الله) فكلّ من وصل إلى حقيقة التقوى يعلّمه الله ما لم يعلم ويكون معه (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)".

يعد تفسير صدر المتألهين من التفاسير العرفانية التي تعنى بالظاهر، وتهتمّ بالقواعد الممهّدة لمعرفة الكلام في مقام الإفادة والاستفادة، فتراه يقول: "وأنت خبير بأنّ خروج الألفاظ القرآنيّة عن معانيها المتعارفة المشهورة يوجب تحيّر الناظرين فيها، والقرآن نازل لهداية العباد وتعليمهم وتسهيل الأمر عليهم مهما أمكن، لا للتعقيد والإشكال، فيجب أن تكون اللغات محمولة على معانيها الوضعيّة المشهورة بين الناس؛ لئلا يوجب عليهم الالتباس".

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد