قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

شهادة القرآن على عدم تحريفه

آية الحفظ

إنّ القرآن هو الكتاب النازل من عند اللّه سبحانه، وهو سبحانه تكفّل صيانة القرآن وحفظه عن أيِّ تلاعب، قال سبحانه: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 6 - 9].

إنّ المراد من الذكر في كلا الموردين هو القرآن الكريم بقرينة (نُزِّلَ) و(نَزَّلْنا) والضمير في (لَهُ) يرجع إلى القرآن، وقد أورد المشركون اعتراضات ثلاثة على النبي، أشار إليها القرآن مع نقدها، وهي:

1 ـ إنّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتلقّى القرآن من لدن شخص مجهول، ويشير إلى هذا الاعتراض قولهم: (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) بصيغة المجهول.

2 ـ إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مختل الحواس لا اعتبار بما يتلقّاه من القرآن وينقله، فلا نُؤمن من تصرّف مخيّلته وعقليّته في القرآن.

3 ـ لو صحّ قوله: بأنّه ينزل عليه الملك ويأتي بالوحي فـ : (لَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقينَ).

فقد أجاب الوحي عن الاعتراضات الثلاثة، ونقدّم الجواب عن الثاني والثالث بوجه موجز، ثمّ نعطف النظر إلى الاعتراض الأوّل لأهميته.

أمّا الثاني، فقد ردّه بالتصريح بأنّه سبحانه هو المنزِّل دون غيره وقال: (إِنّا نَحْنُ).

كما رد الثالث بأنّ نزول الملائكة موجب لهلاكهم وإبادتهم، وهو يخالف هدف البعثة، حيث قال: (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرينَ).

وأمّا الأوّل، فقد صرّح سبحانه بأنّه الحافظ لذكره عن تطرّق أيّ خلل وتحريف فيه، وهو لا تُغلب إرادته.

وبذلك ظهر عدم تمامية بعض الاحتمالات في تفسير الحفظ حيث قالوا المراد:

1 ـ حفظه من قدح القادحين.

2 ـ حفظه في اللوح المحفوظ.

3 ـ حفظه في صدر النبي والإمام بعده.

فإنّ قدح القادحين ليس مطروحاً في الآية حتى تُجيب عنه الآية، كما أنّ حفظه في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يرتبط باعتراض المشركين، فإنّ اعتراضهم كان مبنيّاً على اتهام النبي بالجنون الذي لا ينفك عن الخلط في إبلاغ الوحي، فالإجابة بأنّه محفوظ في اللوح المحفوظ أو ما أشبهه لا يكون قالعاً للإشكال، فالحقّ الذي لا ريب فيه أنّه سبحانه يُخبر عن تعهده بحفظ القرآن وصيانته في عامّة المراحل، فالقول بالنقصان يضاد مع تعهده سبحانه.

فإن قلت: إنّ مدّعي التحريف يدّعي التحريف في نفس هذه الآية؛ لأنّها بعض القرآن، فلا يكون الاستدلال بها صحيحاً، لاستلزامه الدور الواضح.

قلت: إنّ مصبّ التحريف ـ على فرض طروئه ـ عبارة عن الآيات الراجعة إلى الخلافة والزعامة لأئمّة أهل البيت، أو ما يرجع إلى آيات الأحكام، كآية الرجم، وآية الرضعات، وأمثالهما، وأمّا هذه الآية ونحوها فلم يتطرّق التحريف إليها باتّفاق المسلمين.

 

آية نفي الباطل

يصف سبحانه كتابه بأنّه المقتدر الذي لا يُغْلَب ولا يأتيه الباطل من أي جانب، قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].

ودلالة الآية رهن بيان أُمور:

الأوّل: المراد من الذكر هو القرآن، ويشهد عليه قوله: (وَإِنّهُ لَكتابٌ عَزيزٌ) مضافاً إلى إطلاقه على القرآن في غير واحد من الآيات، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44].

الثاني: إنّ خبر (إنّ) محذوف مقدّر وهو: سوف نجزيهم وما شابهه.

الثالث: الباطل يقابل الحق، فالحق ثابت لا يُغْلب، والباطل له جولة، لكنّه سوف يغلب، مَثَلهما كمثل الماء والزَبد، فالماء يمكث في الأرض والزَبد يذهب جفاء، قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].

فالقرآن حقّ في مداليله ومفاهيمه، وأحكامه خالدة، ومعارفه وأُصوله مطابقة للفطرة، وأخباره الغيبية حق لا زيغ فيه، كما أنّه نزيه عن التناقض بين دساتيره وأخباره {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

فكما أنّه حقّ من حيث المادة والمعنى، حقّ من حيث الصورة واللفظ أيضاً، فلا يتطرّق إليه التحريف، ونِعمَ ما قاله الطبرسي: لا تناقض في ألفاظه، ولا كذب في أخباره، ولا يعارض، ولا يزداد، ولا ينقص (1).

ويؤيّده قوله قبل هذه الآيات: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] ولعلّه إشارة إلى ما كان يدخله في نفسه من إمكان إبطال شريعته بعد مماته، فأمره بالاستعاذة باللّه السميع العليم.

والحاصل أنّ تخصيص مفاد الآية (نفي الباطل) بطروء التناقض في أحكامه وتكاذب أخباره لا وجه له، فالقرآن مصون عن أيّ باطل يبطله، أو فاسد يفسده، بل هو غضّ طريّ لا يبلى وَلا يفنى.

 

آية الجمع

رُوي أنّه إذا نزل القرآن، عجّل النبي بقراءته، حرصاً منه على ضبطه، فوافاه الوحي ونهاه عنه، وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19]، فعلى اللّه سبحانه الجمع والحفظ والبيان، كما ضمن في آية أخرى عدم نسيانه (صلَّى الله عليه وآله وسلّم) القرآن وقال: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 6، 7].

هذا بعض ما يمكن أن يُستدلّ به، على صيانة القرآن من التحريف بالقرآن، والاستثناء في الآية الأخيرة نظير الاستثناء في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، ومن المعلوم أنّ أهل السعادة محكومون بالخلود في الجنة ويشهد له ذيل الآية، أعني: قوله: (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع، ومع ذلك فليس التقدير على وجه يخرج الأمر من يده سبحانه، فهو في كلّ حين قادر على نقض الخلود.

وأمّا الروايات الدالّة على كونه مصوناً منه، فنقتصر منها بما يلي:

1 ـ أخبار العرض

قد تضافرت الروايات عن الأئمّة (عليهم السَّلام) بعرض الروايات على القرآن والأخذ بموافقه وردّ مخالفه، وقد جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.

روى الكليني عن السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السَّلام) قال: (قال رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنّ على كلّ حقّ حقيقةً، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه) (2).

وروى أيّوب بن راشد، عن أبي عبد اللّه (عليه السَّلام) قال: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف) (3).

وفي رواية أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السَّلام) يقول: (كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف) (4).

وجه الدلالة من وجهين:

أ ـ إنّ المتبادر من أخبار العرض أنّ القرآن مقياس سالم لم تنلـه يد التبديل والتحريف والتصرّف، والقول بالتحريف لا يلائم القول بسلامة المقيس عليه.

ب ـ إنّ الإمعان في مجموع روايات العرض يثبت أنّ الشرط اللازم هو عدم المخالفة، لا وجود الموافقة؛ وإلاّ لزم ردّ أخبار كثيرة لعدم تعرّض القرآن إليها بالإثبات والنفي، ولا تعلم المخالفة وعدمها إلاّ إذا كان المقيس (القرآن) بعامة سوره وأجزائه موجوداً عندنا، وإلاّ فيمكن أن يكون الخبر مخالفاً لِما سقط وحُرّف.

2 ـ حديث الثقلين

إنّ حديث الثقلين يأمر بالتمسّك بالقرآن، مثل التمسّك بأقوال العترة، حيث قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا) ويستفاد منه عدم التحريف، وذلك:

أ ـ إنّ الأمر بالتمسّك بالقرآن، فرع وجود القرآن بين المتمسّكين.

ب ـ إنّ القول بسقوط قسم من آياته وسُوَره، يوجب عدم الاطمئنان فيما يُستفاد من القرآن الموجود؛ إذ من المحتمل أن يكون المحذوف قرينةً على المراد من الموجود.

 

أهل البيت وصيانة القرآن

إنّ الإمعان في خطب الإمام أمير المؤمنين  عليه السَّلام) وكلمات أوصيائه المعصومين (عليهم السَّلام) يعرب عن اعتبارهم القرآن الموجود بين ظهراني المسلمين، هو كتاب اللّه المنزل على رسوله بلا زيادة ولا نقيصة، ويُعرف ذلك من تصريحاتهم تارةً وإشاراتهم أخرى، ونذكر شيئاً قليلاً من ذلك:

1 ـ قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): (أَنزل عليكم الكتابَ تبياناً لكلّ شيء، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً، حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه) (5).

والخطبة صريحة في إكمال الدين تحت ظل كتابه، فكيف يكون الدين كاملاً ومصدره محرّفاً غير كامل؟! ويوضّح ذلك أنّ الإمام يحثّ على التمسّك بالدين الكامل بعد رحيل الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو فرع كمال مصدره وسنده.

2 ـ وقال (عليه السَّلام): (وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تُهدم أركانه، وعزٌّ لا تُهزم أعوانه) (6).

3 ـ وقال (عليه السَّلام): (كأنّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم) (7).

وفي رسالة الإمام الجواد إلى سعد الخير (8): (وكان مِن نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده) (9).

وفي هذا تصريح ببقاء القرآن بلفظه، وأنّ التحريف في تطبيقه على الحياة حيث لم يطبّقوا أحكامه في حياتهم، ومن أوضح مظاهره منع بنت المصطفى (عليها السَّلام) من إرث والدها مع أنّه سبحانه يقول: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [النساء : 11].

وقال سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16].

وقال سبحانه عن لسان زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [مريم : 5، 6].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.مجمع البيان : 9/15.,ط  صيدا.

2 ـ الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 10 .

3 ـ الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 ، 15 وغيرها .

4 ـ الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 ، 15 وغيرها .

5 ـ نهج البلاغة : الخطبة 86 .

6 ـ نهج البلاغة : الخطبة 133 .

7 ـ نهج البلاغة: الخطبة : 147 .

8 ـ هو من أولاد عمر بن عبد العزيز، وقد بكى عند أبي جعفر الجواد لاعتقاده أنّه من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال الإمام (عليه السَّلام) له: (لستَ منهم وأنت منّا، أَما سمعت قوله تعالى: (فَمَنْ تَبعَني فَهُوَ مِنّي ) . ( لاحظ قاموس الرجال : 5 / 35 ) ومنه يُعلم وجه تسميته بالخير.

9 ـ الكافي : 8 / 53 ح 16 .

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد