قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

عصمة داود عليه ‌السلام وقضاؤه في النعجة

قد وصف سبحانه داود النبي عليه ‌السلام بأسمى ما توصف به الشخصية المثالية، قال سبحانه: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

وقد ذكر ملكه وسلطنته على الجبال والطيور على وجه يمثل أقوى طاقة نالها البشر طيلة استخلافه على الأرض. قال سبحانه: (إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ).

فقد أخبر في الآية الأخيرة بأنّه أُوتي الحكمة وفصل الخطاب، الذي يعد القضاء الصحيح بين المتخاصمين من فروعه وجزئياته. ثمّ إنّه سبحانه ينقل بعده قضاءه في «نبأ الخصم» ويقول: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ).

لقد تمسكت المخطّئة لعصمة الأنبياء بقوله تعالى: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ) حيث إنّ الاستغفار وغفرانه سبحانه له، آية صدور الذنب. والإجابة عن هذا الاستدلال تحتاج إلى بيان مفردات الآية وإيضاح القصة فنقول: إنّ تفسير الآية يتم ببيان عدة أمور:

 

1. توضيح المفردات

«الخصم»: مصدر «الخصومة»، أُريد به الشخصان.

«التسوّر»: الارتقاء إلى أعلى السور، وهو ما كان حائطاً، «كالتسنم» بمعنى الارتقاء إلى أسنام البعير، و«التذري» بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبال، والمراد من المحراب في الآية الغرفة.

«الفزع»: انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع.

«الشطط»: الجور.

«النعجة»: الأنثى من الضأن.

والمراد من قوله: «اكفلنيها»: اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي، ومن قوله «عزني في الخطاب»: أنّه غلبني فيه.

هذا كله راجع إلى توضيح مفردات الآية.

 

2. إيضاح القصة

كان داود عليه ‌السلام جالساً في غرفته إذ دخل عليه شخصان بغير إذنه، وكانا أخوين يملك أحدهما تسعاً وتسعين نعجة ويملك الآخر نعجة واحدة، وطلب الأوّل من أخيه أن يعطيه النعجة التي تحت يده، مدعياً كونه محقاً فيما يقترحه على أخيه، وقد ألقى صاحب النعجة الواحدة كلامه على وجه هيّج رحمة النبي داود وعطفه.

فقضى عليه ‌السلام طبقاً لكلام المدعي من دون الاستماع إلى كلام المدعى عليه، وقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ).

ولما تنبّه أنّ ما صدر منه كان غير لائق بساحته، وأنّ رفع الشكوى إليه كان فتنة وامتحاناً منه سبحانه بالنسبة إليه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ).

 

3. هل الخصمان كانا من جنس البشر؟

إنّ القرائن الحّافة بالآية تشعر بأنّ الخصمين لم يكونا من جنس البشر، وهذه القرائن عبارة عن:

1. تسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولاً غير عادي مع أنّ طبع الحال يقتضي أن يكون محرابه محفوفاً بالحرس ولا أقل بمن يطلعه على الأمر، فلو كان الدخول بإذنهم كان داود عليه ‌السلام مطّلعاً عليه ولم يكن هناك أيّ فزع.

2. خطاب الخصمين لداود عليه ‌السلام بالقول: (لا تَخَفْ) مع أنّ هذا الخطاب لا يصح أن تخاطب به الرعية الراعي، وطبيعة الحال تقتضي أن يخاطب به الراعي الرعية.

3. إنّ خطابهما لداود بما جاء في الآية، أشبه بخطاب ضيف إبراهيم له عليه ‌السلام، يقول سبحانه: (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)، ويقول سبحانه: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ).

4. تنبهه عليه ‌السلام بأنّه كان فتنة من الله له وامتحاناً منه، وهي تشعر بأنّ الواقعة لم تكن عادية، وهذا يناسب كون الدعوى مطروحة من جانبه سبحانه عن طريق الملائكة.

5. إنّ الهدف من طرح تلك الواقعة كان لغاية تسديده في خلافته وحكمه بين الناس حتى يمارس القضاء بالنحو اللائق بساحته ولا يغفل عن التثبت ولأجل ذلك خاطبه سبحانه بعد قضائه في ذلك المورد بقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ) كل ذلك يؤيد كون الخصمين من الملائكة تمثّلوا له بصورة رجلين من الإنس.

نعم كانت القصة وطرح الشكوى عنده أمراً حقيقياً كقصة ضيف إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا بصورة الرؤيا وما أشبهها.

 

4. كون الاستغفار لأجل ترك الأولى

استدلت المخطّئة باستغفاره وإنابته إلى الله، على صدور ذنب منه ولكنّه لا يدل على ذلك:

أمّا أوّلاً: إنّ قضاءه لم يكن قضاء باتاً خاتماً للشكوى، بل كان قضاء على فرض السؤال، وإنّ من يملك تسعاً وتسعين نعجة ولا يقتنع بها ويريد ضم نعجة أخيه إليها، ظالم لأخيه، وكان المجال بعد ذلك بالنسبة إلى المعترض مفتوحاً وإن كان الأولى والأليق بساحته هو أنّه إذا سمع الدعوى من أحد الخصمين، أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها ولا يتسرع في القضاء ولو بالنحو التقديري.

وإنّما بادر إليه لأنّه عليه‌ السلام فوجئ بالقضية ودخل عليه المتخاصمان بصورة غير عادية فلم يظهر منه التثبت اللائق به.

ولـمّا تنبّه إلى ذلك وعرف أنّ ما وقع، كان فتنة وامتحاناً من الله بالنسبة إليه (اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) تداركاً لما صدر منه ممّا كان الأولى تركه، أوّلاً، وشكراً وتعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة، ثانياً.

وثانياً: إنّ من الممكن أن يكون قضاؤه قبل سماع كلام المدّعى عليه، لأجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق إانّ الحق مع المدّعي، فقضى بلا استماع لكلام المدّعى عليه، نعم الأولى له حتى في هذه الصورة ترك التسرع في إصدار الحكم، والقضاء بعد الاستماع، ولـمّا ترك ما هو الأولى بحاله استغفر لذلك، وقد تكرر منا أنّ ترك الأولى من الأنبياء ذنب نسبي وإن لم يكن ذنباً على وجه الإطلاق.

وثالثاً: لـمّا كانت الشكوى مرفوعة إليه من قبل الملائكة، ولم يكن ذلك الظرف ظرف التكليف، كانت خطيئة داود في ظرف لا تكليف هناك، كما أنّ خطيئة آدم عليه ‌السلام كانت في الجنة ولم تكن الجنّة دار تكليف، ومع ذلك كلّه لـمّا كان التسرع في القضاء بهذا الوجه أمراً مرغوباً عنه، استغفر داود وأناب إلى الله استشعاراً بخطر المسؤولية بحيث يعد ترك الأولى منه ذنباً يحتاج إلى الاستغفار.

نعم قد وردت في التفاسير أحاديث في تفسير الآية لا يشك ذو مسكة من العقل أنّها إسرائيليات تسربت إلى الأمّة الإسلامية عن طريق أحبار اليهود ورهبان المسيحية، فالأولى الضرب عنها صفحاً، وسياق الآيات يكشف عن أنّ زلته لم تكن إلّا في أمر القضاء فقط لا ما تدّعيه جهلة الأحبار من ابتلائه بما يخجل القلم عن ذكره، ولأجله يقول الإمام علي عليه‌ السلام في حق من وضع هذه الترهات أو نسبها إلى النبي داود عليه ‌السلام: « لا أُوتى برجل يزعم أنّ داود تزوج امرأة «أوريا» إلّا جلدته حدّين: حدّاً للنبوة وحدّاً للإسلام» (1).

ـــــــــــــــــــ

(1). مجمع البيان: 4 / 472. ط. المكتبة العلمية الإسلامية ـ طهران.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد